10 سبتمبر 2025

تسجيل

(الأتمتة) ومستقبل الإنسان

04 فبراير 2021

يمثل عصرنا الحالي الذي نعيشه عصر التقدم التكنولوجي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فقد شهد العالم خلال العصر الحديث نقلات نوعية كبيرة بفضل التكنولوجيا الحديثة وتطبيقاتها. نقلات لم يكن الإنسان ليتصورها خلال مراحل حياته السابقة على هذا العصر، وبعقد مقارنة سريعة بين تصورات الإنسان في الأزمان الغابرة وما آلت إليه حياته الآن، يمكننا تلمس الإخفاق في استشراف مستقبل العصر الحديث، ولا تزال تصوراتنا قاصرة عن إدراك المستقبل قياساً على الحاضر، لا سيما وأن التكنولوجيا لا تزال تحقق قفزات هائلة قد نعجز معها عن تصور ما ستؤول إليه الأمور مستقبلاً. من القضايا التي أفرزتها التكنولوجيا الحديثة خلال العصر الصناعي قضية "الأتمتة" والتي تُعرّف بأنها عملية استبدال العمل البشري وإحلال الآلة عوضاً عنه، وهو ما شهد زيادة مضطردة خلال السنوات الأخيرة، فلم يعد الإنسان كما في السابق عنصراً محورياً في عملية الإنتاج، فقد حلت الآلة مكان العمل البشري واقتصر دور الإنسان على برمجتها ومراقبتها والإشراف عليها. وبالنظر لما تقدمه لنا الأتمتة من مزايا كبيرة كمضاعفة الإنتاج وتقليل الجهد وتحقيق الدقة وتقليص التكفلة، ينبغي علينا أن لا نغفل عن الجوانب السلبية لتلك القضية ونهملها. تشير التقديرات إلى أن انتشار الأتمتة وإحلال الآلة مكان العمل البشري وتقسيم الأدوار بين الآلة والإنسان، سيؤديان إلى زوال نحو 85 مليون وظيفة بحلول عام 2025، وهو الأمر الذي يطرح قضية البطالة في صدارة القضايا المؤرقة مع ما يرافقها من إشكالات اجتماعية وأمنية وتنموية ملحة، كما تطرح تلك القضية سؤالاً جوهريا حول أولويات التقدم التكنولوجي وأهدافه على المدى البعيد وعن مدى استعداد المجتمعات الإنسانية لسيطرة الآلة على كافة مفاصل عملية الإنتاج. وقد كشف تقرير صادر عن معهد ماكينزي العالمي أن الأتمتة سوف تتطلب أن يغير مابين 3 الى 13% من عمال العالم " بحسب مستوى التنمية في البلد" مهنهم أو أن يقوموا بترقية مهاراتهم بحلول عام 2030. وبالنظر للخطط الاستراتيجية للتنمية التي تضعها الدول، نجد أن خطط تأهيل الكادر البشري فيها تصاغ في غالبها وفق تصورات آنيّة دون الأخذ بالاعتبار القفزات الصادمة وغير المتوقعة التي تحققها التكنولوجيا يومياً، الأمر الذي يولد إشكالية تتمثل في جدوى آليات التخطيط الوظيفي ونوعية التخصصات الأكاديمية المبنية على حاجة سوق العمل، وبرامج التأهيل المهني ومدى صمود تلك البرامج ومسايرتها واستيعابها لمستقبل الأتمتة. من جهة أخرى لا بد لنا من التعريج على جانب آخر من هذه القضية والمتعلق بالملكات التي يتفوق بها الإنسان على الآلة والمتمثلة في "الوعي" وما يرتبط به من مشاعر وإدراك للذات والقدرة على الإحساس والتعاطف، وأهمية إعادة النظر في أولويات التحصيل الأكاديمي المبني على احتياجات سوق العمل، فمتطلبات التنمية تركز في الوقت الراهن وبإفراط على تدريس المعارف التي يتطلبها اقتصاد السوق وآلته الإنتاجية وبما يضمن استمرار عجلة التقدم في الدوران، مع إغفال كبير للجوانب الفكرية والعقلية ودراسة المنطق والفلسفة والفنون والعلوم الاجتماعية عموماً. وفي الغالب يعزى ذلك الإهمال إلى أن تلك المجالات غير ذات مردود مادي، أو انها ذات إسهام متواضع في مساعي التنمية، إلا أنه وكما أشرنا آنفاً فإن رهان المستقبل متوقف على تلك المجالات والحقول الأكاديمية تحديدا التي يتفوق بها الإنسان على غريمته "الآلة". إن مستقبل الأتمتة يطرح أسئلة كثيرة وكبيرة وإشكاليات أخلاقية تزعج راحتنا وتزعزع أركان الاستقرار الذي وفرته لنا، ومن تلك الإشكاليات قضية الانحياز للآلة أو مايدعى "Automation bias"، والمتمثل في ميل الإنسان لاتخاذ القرارات وترجيح الاقتراحات التي تقدمها له أنظمة صنع القرار الآلية وتجاهل المعلومات التي تناقض اقتراحات تلك الأنظمة حتى وإن كانت صحيحة. بمعنى أن الدقة التي توفرها لنا الآلة والتكنولوجيا جعلت منا أسرى لها وبذلك تخلينا عن ملكة النقد أمام هيمنة الآلات، وهي إشكالية يطلق عليها " إساءة استخدام الأتمتة" والتي قد تؤدي بنا في نهاية المطاف إلى عواقب وخيمة لا تحمد نتائجها. تمثل تلك القضية تحديداً فضلاً عن قضية تنامي الاعتماد على التكنولوجيا بوجه عام، بدءًا بحفظ أرقام الهواتف إلى القيادة الآلية للطائرات، تحديا كبيراً وتضعنا في مواجهة أسئلة وجودية كبرى تتعلق بتطور العقل البشري، الذي استطاع خلال مسيرته المضنية أن يحقق قفزات هائلة بسبب التحديات التي واجهها والمشكلات التي تطلبت منه إعمالا للملكات العقلية، فتمكن من صنع الأدوات وابتكر الحلول التي حققت للبشرية قفزات كبيرة، إلا أن التكنولوجيا الحديثة، أسهمت بشكل أو بآخر في تعطيل تلك الملكات، فالعقل عندما يستخدم وسائل تكنولوجية هو غير معني بكيفية عملها، ثم تغنيه تلك الوسائل عن إعمال ملكاته في مسائل عديدة سيؤدي ذلك لا محالة إلى اضمحلال تلك الملكات وقد تترتب على تلك المعضلة سلبيات تنسحب على الجنس البشري برمته. ويحق لنا هنا التخوف كذلك من السلبيات التي ستنعكس على عقول الأطفال تحديداً عندما يستخدمون وسائل التكنولوجيا، فبحسب ما توصل له علم الأعصاب فإن للتذكر دورا محوريا في تشكيل بنية الدماغ وإنشاء الروابط العصبية داخل تلك البنية، كما أن التذكر يعد ركيزة أساسية للعملية التعليمية والنمو لدى الطفل وبناءً على ذلك يكون التخوف من سلبيات التكنولوجيا الحديثة امرا مشروعا ومطروحا بلا شك. إن الجوانب الغامضة التي تكتنف مستقبل الأتمتة كثيرة ولا يسعنا معالجتها بإسهاب في هذا المقال، في الوقت ذاته لايمكننا غض الطرف كليا عنها. عندما تسهم الأتمتة في زيادة الإنتاج وتقليص التكلفة سيؤدي ذلك لا محالة إلى توفير السلع والخدمات بأسعار زهيدة، ولكننا قد نفاجأ بأن غالبية الناس لا تستطيع اقتناء تلك المنتجات بسبب ارتفاع معدلات البطالة وتقليص الوظائف والاستغناء عن العنصر البشري، وهو الوجه الآخر للأتمتة، كما أننا لا نعلم "كما أشرنا سابقا" أي منحى سيسلك مستقبل التكنولوجيا وإلى أي مدى ستسيطر فيه الآلة على البشر، سواء كانت تلك السيطرة كما تصورها لنا أفلام الخيال العلمي عبر امتلاك الآلة للوعي وتمردها على الإنسان! " وهناك من العلماء من أبدى قلقه من هذا السيناريو" أو عبر ما يطلق عليه الانحياز للآلة وسيطرة القرار التقني وسطوته على القرار البشري. تلك التساؤلات تطلق العنان للخيال ليتصور شكل المستقبل.. فهل سيعيش الإنسان بفضل التكنولوجيا وحلولها محل الإنسان حياة رغيدة يسخّر فيها الجنس البشري الآلات لخدمته وتتغير موازين عجلة التنمية فلا يحتاج إنسان المستقبل للعمل من الأساس وسيكتفي بالخدمات الجليلة التي ستقدمها له التكنولوجيا، بينما يتفرغ هو للتأمل والاهتمام بالفنون والتفكر فيما حوله، أم أن المستقبل أقل إشراقا وربما تنقسم مجتمعات المستقبل إلى طبقات يسيطر فيها أصحاب رؤوس الأموال بمساعدة الآلات على الطبقات الأضعف، ولكن كيف ستكون تلك السيطرة وهم ليسوا في حاجة للعمال أساسا؟ هل ستخلق حاجات جديدة؟ أم سيكون هناك نوع جديد من البطالة المقنعة يتقاضى في ظلها الناس رواتب زهيدة دون مقابل من العمل ليدعموا فقط مسيرة الإنتاج المؤتمتة بالكامل ويشترون إنتاجها الزهيد واللا إنساني؟ فضلا عما سبق فإنه من الضرورة بمكان إعادة النظر في أهداف التنمية بعيدة المدى، وتخطيط الموارد البشرية ووضع أهدافها وفق نظرة بعيدة تأخذ بعين الاعتبار سيطرة الآلة وتمكنها من كافة مناحي الحياة. فوفقاً لقانون مور، "وهو القانون الذي وضعه غوردون مور أحد مؤسسي شركة (إنتل) في عام 1965، بعد أن لاحظ أن عدد الترانزستورات على شريح المعالج يتضاعف كل عامين دون أن يطرأ على سعر الشريحة أي تغيير"، فإن التكنولوجيا الحديثة وقدرة الحواسيب تشهد تضاعفا أسياً كل عامين!! ولنا أن نتخيل القدرة الفائقة لمستقبل تلك التكنولوجيا، فهل نحن مستعدون لذلك اليوم؟، وهل التخصصات الأكاديمية والتأهيل التقني والتدريب المهني المرسوم للمستقبل لرفد سوق العمل بالطاقات البشرية المؤهلة سيكون له موقع من الإعراب، وهل سنفاجأ عندما تلغي الأتمتة الحاجة لكثير من تلك التخصصات والمجالات المهنية؟ وهل سيأتي علينا يوم ستقول لنا الآلة عندما نحصل على مؤهلنا الأكاديمي" أنقعه واشرب ماءه".