16 سبتمبر 2025
تسجيلفي الأساطير الرومانية القديمة تعتبر الآلهة "جونو مونيتا" من أكبر الآلهة وأكثرها نفوذا، وبحسب الاعتقاد كانت بجانب العديد من اختصاصاتها معنية بالثروة والأملاك، وقد كان الانسان قديماً لايعرف المال بالصورة التي نعرفها الآن، بل كان يعتمد المقايضة كوسيلة للتبادلات التجارية، ومع تطور المجتمعات لجأ الإنسان إلى ابتكار العملة لتسهيل تلك العملية، وقد قام الرومان بسك أولى العملات في معبد الآلهة "جونو مونيتا"، ونقشوا صورتها عليها، ومن ذلك اشتقت كلمة ""money في اللغة الانجليزية والتي تعني المال. قد تُفهم عبادة آلهة الثروة بمعنى حرفي، عبر ممارسة الشعائر وتقديم القرابين وتخصيص المعابد لتأدية تلك الفروض، إلا أن الأمر ليس كذلك بالطبع، فالعبادة قد تعني أيضا "الطاعة والخضوع والتذلل"، وينبغي علينا عند تناول ظاهرة معينة وتقييمها، النظر لها وفق نظرة تتجاوز الفهم المحدود للمصطلح وتتلافى الصورة المنطبعة في المخيلة والتي تتبادر إلى الإدراك مباشرة عند سماع الدلالة اللغوية. إن الزعم بعبادة آلهة الثروة لاتعدو كونها رمزية لتوصيف الواقع الذي نعيشه، فالاقتصاد الرأسمالي الذي يكتسح عالم اليوم، مبني أساسا على المال كقيمة أساسية، تتمحور حوله كافة مناحي الحياة ونخضع له شئنا أم أبينا خضوعا تاماً، الأمر الذي يمكن معه وصف حضارة اليوم بـ"حضارة المال" مع ما يرافق تلك الحضارة من تعزيز للنزعة الاستهلاكية والسعي الدائم والحثيث للحصول على المال وما ينتج عن ذلك في أحيان كثيرة من خضوع واستسلام له، بل قد يصل الأمر للتذلل بغية الحصول عليه. عندما نتحدث عن المال بصورة شاملة تتجاوز الحدود الجيوسياسية التي لايعير لها المال اهتماما، نجد أن طغمة المال في العالم هم فئة قليلة وعائلات محددة، تستأثر بالنصيب الأكبر من الثروات وتمتلك حق التحكم في السياسة النقدية للعالم، صحيح أنهم يقبعون في الظل ولا يسعون للشهرة والأضواء، إلا أن تأثيرهم يتجاوز الحدود. ومع الأخذ بالاعتبار الشكلية التي تغلف السياسات النقدية، والقوانين التي تنظمها، نجد أن الاقتصاد العالمي خاضع بصورة منظمة للدولار ولا يستطيع الحياد عنه، ويمكننا استشراف نتائج التمرد على هذا النظام، بالنظر لمآلات حالات التمرد التي حدثت تاريخيا أوـ بشكل محدودـ خلال الوقت الراهن، والنتائج التي ترتبت عليها، سواء بتفكك الاتحاد السوفييتي سابقاً أو ما تعانيه الدول الرافضة للخضوع للنظام المالي حالياً من حروب وعقوبات وفقر. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو، إذا كان الهدف وراء كافة المساعي هو الحصول على المال لتحقيق هدف نهائي يتمثل في الاستهلاك والحصول على الخدمات، اذا.. مالهدف الذي تسعى له الطغمة المالية في العالم وهم يملكون المال ويتحكون به تحكما كبيراً؟، وللإجابة على هذا السؤال ينبغي علينا فهم المال أولاً. كان المال عبر التاريخ يتجسد في المعادن النادرة، كالذهب والفضة كقيمة متفق عليها في المجتمع، تقوم بدور الوسيط للتبادل التجاري والحصول على السلع والخدمات، وكاختراع كبير للإنسانية لحفظ فائض قيمة العمل، ولتبسيط الصورة ومعرفة قيمة هذا الاختراع، يمكننا تلخيصها في أن الإنسان الذي يستطيع اليوم القيام بجهد وعمل قد يعجز عن بذله غداً بنفس الكفاءة والاستطاعة، ومع جني المال نظير ذلك الجهد يمكنه حفظ قيمة العمل واستخدامها لاحقا عبر تحويلها إلى مال كقيمة لجهوده وليحفظها من أن تضيع سدى، وهو الأمر الذي لم تعهده البشرية عبر تاريخها المستند في وقت ما على الصيد والالتقاط والتكافل الاجتماعي. وقد حقق هذا الاختراع قفزات هائلة للبشرية، إلا أنه ومع استغلال الرأسمالية له أصبح وسيلة لإخضاع الإنسان. في عام 1971 قام الرئيس الأسبق للولايات المتحدة الامريكية ريتشارد نيكسون، بإلغاء غطاء الذهب عن الدولار، ومنذ ذلك الحين لم تعد العملة مربوطة بالذهب، أي أنها لم تعد سنداً قانونياً مغطى بالذهب كقيمة متفق عليها وكقاعدة لتحديد قيمتها، بل باتت العملة ورقة نقدية تطبع وتستند في قيمتها على مفاهيم أخرى. وما يجهله كثيرون، هو أن الدولار يتم إنتاجه عبر الائتمان، أي أن إصدار الدولار يولد دينا يتزايد بتزايد إصداره، الأمر الذي يستحيل معه تسديد ذلك الدين، وللتوضيح أكثر، فإن مجلس الاحتياط الفيدرالي هو الجهة التي تقوم بإصدار الدولار، ولكن مهلاً.. قد يوحي اسم مجلس الاحتياطي بأنه وكالة حكومية أمريكية اليس كذلك؟، ولكن الصادم في الأمر هو أن مجلس الاحتياط الفيدرالي مملوك بالكامل للقطاع الخاص! نعم إن الطغمة المالية وملاك المجلس الاحتياطي الفيدرالي يقرضون المال للحكومة، ما ينتج دينا متضخما يستحيل سداده! وهنا تأتي الإجابة على السؤال آنف الذكر، حول الهدف من ذلك؟ وباعتقادي أن الاجابة أصبحت واضحة: "التحكم". إن التحكم في الثروات وفي قيمة فائض العمل للأفراد هو الهدف الذي يسعى أصحاب المال في العالم لتحقيقه، ولتسديد الدين المذكور، ينبغي على دافعي الضرائب الاستمرار في دفعها، ولدفعها يتوجب عليهم العمل بجد دون كسل أو ملل، وأن يكونوا كالمسمار في الآلة الرأسمالية المنتجة، وبتعزيز نزعة الاستهلاك وتحويل الإنسان إلى كائن اقتصادي تستمر العجلة في الدوران، ولن يُسمح لأحد أبدا بإيقافها أو التمرد على هذا النظام القائم أو تحسينه، الأمر الذي يؤدي بنا -لا محالة- للاعتقاد والاقتناع بأن النظام القائم أمر بديهي لا مفر منه. ينسحب على ذلك أن قيمة الإنسان الحقيقية أصبحت مرتبطة ارتباطا وثيقا بما يملكه من مال، وهو الأمر الذي يراه كثيرون بمثابة عنصرية في صورة محدثة وعصرية، فالحق في الحصول على التعليم والصحة والرفاهية، في الدول التي تطبق الرأسمالية بأقصى تجلياتها أصبح خاضعا للمال ومدى امتلاك الإنسان له. والعبودية الكلاسيكية التي انتهت من العالم أصبحت في النظم الرأسمالية البحته موجودة عبر إخضاع الإنسان للدَّيْن بشكل متواصل، الأمر الذي يتطلب معه العمل بشكل مستمر ومتواصل وبطواعية، أو استنزاف كل مايملك من ثروات وممتلكات لتسديد دَيْنه، وهو مايحقق الأهداف التي أشرنا إليها، فمن يمتلك حق سك العملية، يمتلك ثروات العالم. يبين لنا هذا الوضع أن إنسان العصر الحديث تم استنزافه وسلخه عن إنسانيته، كما تم تجييره وبرمجته عبر الوسائل الناعمة، أو بالقوة إن تطلب الأمر ذلك، ليكون روبوتا استهلاكيا، لايعرف سوى المال وسيلة للحياة، ولا يتطلع إلا لما يشبع رغباته المادية، وقد نجحت تلك الجهود عبر تعزيز ثلاث نزعات متأصلة في نفس الإنسان وهي: الحصول على المتعة، والجشع، والشعور بالخوف، وعبر التحكم بتلك النزعات تم تفريغ الإنسان من محتواه وأصبحت حياته مرتبطة ارتباطا وثيقا بالمال والحصول عليه واكتنازه، وأصبحت السيطرة عليه والتحكم به أمرا واقعا، دون أن يدرك أن السعي الحثيث وراء المتعة لا يحقق له مبتغاه وتضيع معه البوصلة والهدف الأسمى من حياته، ويضيع في دوامة اللهث وراء المتع المادية الزائفة، أما الجشع فهو وسيلة ناجعة لتجريد الإنسان من إنسانيته وفقدانه لملكة التعاطف مع الآخر، وأما الشعور بالخوف فهو كفيل بتحويل الإنسان إلى كائن تسهل قيادته وتوجيهه والسيطرة عليه والتحكم بمصيره. ومع إدراك مدى تملك هذا الوضع منا وسيطرته علينا وضعف حيلتنا أمامه، إلا أن الوعي به وفهمه بصورة أشمل، كفيل بانتشال الإنسان ولو جزئيا من براثن الاستعباد والسيطرة، دون أن تنطلي عليه الفانتازيا الرأسمالية، ليصل الإنسان الى إدراك أن ما تم إقناعه به، بأن وقوفه في الطوابير للحصول على السلع وشعوره الدائم بعدم الارتياح، وأنه بحاجة لبذل المزيد لتحقيق المتعه، وعليه العمل بجد أكثر لتحقيق مراده، ماهي إلا وسائل رأسمالية للإخضاع وتغريب الإنسان، وما الخوف الدائم الذي تغذيه التجاذبات السياسية إلا وسيلة تبقي الإنسان قابعاً في مكانه لا يستطيع التفكير بما يُمارَس عليه من استغلال وتهميش. لقد أصبح إنسان اليوم كالعابد الخاضع لمعبوده "المال"، يتذلل ويتودد بكافة السبل للحصول عليه، وأصبح يعيش في دوامة من القروض الاستهلاكية التي لا تنتهي كمن يؤدي فروض الولاء والطاعة، وأضحى ذلك الإنسان يسعى وراء المال ليس لتغطية احتياجاته الأساسية وحسب، بل للحصول على القدر الأكبر من المتع الزائفة، عبر استنزاف وقته وصحته دون أن يتساءل عن الهدف الأسمى وراء ذلك، جاهلاً أو متجاهلاً كونه أداة لتحقيق الأرباح ولتضخيم جيوب غيره، وبات مقتنعا تماما بأن قيمته تقاس بالقدر الذي يحمله في جيبه من المال، أو الذي يدخره في رصيده البنكي، حتى بات التافهون فاقدو القيمة والأهلية يتبخترون بتبجح ونرجسية أمامنا، ولأنهم يملكون المال، بل الكثير منه، أصبحوا من ذوي الشأن يفرش لهم الورد وتفتح لهم الأبواب، ويستأثرون بالاهتمام ويحضون بالتقدير، وتُخصص لهم المساحات ليعبروا عن أنفسهم المثيرة للشفقة، وما إن ينطق أحدهم حتى تتبادر إلى الذهن مقولة سقراط "تكلم حتى أراك"!. يبنغي أن يعاد ضبط البوصلة، وأن يعاد النظر في تقييم الأشخاص لكي لا يتسلق التافهون على ظهور الآخرين لسبب واحد وهو أنهم يملكون المال، ولكي لا يتم تهميش ذوي القدرات والإمكانات لأنهم لا يملكونه، كما ينبغي على الإنسان أن يفهم الواقع بشكل أكثر وضوحاً من ذي قبل، وأن يدرأ عبادة من لا يضر ولا ينفع، وأن يحطم الأغلال غير المرئية التي تقيده وتدمي معصميه، حتى يعود يتمكن من إعادة الاعتبار لإنسانيته من جديد.