15 سبتمبر 2025
تسجيلنشرت صحيفة "الشرق" في عددها الصادر بتاريخ 24 / 11 تقرير المجلس الأعلى للقضاء وخططه المستقبلية لتعديل التشريعات. لقد أدهشني عدد الدعاوى المتداولة في المحاكم، إذ بلغ عددها 85911 قضية، وأن الدعاوى المدنية بلغ عددها 19994 ينظر هذه القضايا جميعا 165 قاضيا فقط. سؤالي ما دلالة هذه الأرقام، هل يدل ذلك على وعي في المجتمع أم جهل ولذا يقع الناس في المحذور الأمر الذي يقودهم إلى ساحة القضاء؟ وهل عدد القضاة 165 كافيا للنظر في هذه القضايا المتعددة والمتشعبة دون إبطاء؟ وهل القضاة الذين ينظرون هذه القضايا من مدرسة فقهية واحدة، وثقافة مجتمع واحد؟ ثم كيف يتعامل القاضي مع أصحاب هذه القضايا؟ هل يلتزم بنصوص القانون الجامدة أم أنه يرجع إلى العرف الاجتماعي السائد في الدولة والتقاليد الاجتماعية رغم وجود النص؟ لا جدال أن القضاة يختلفون في سائر الشرائع والقوانين فيما يطلقونه من أحكام قضائية وهذا الاختلاف ظاهرة إنسانية متعارف عليها، فمنهم من لا يراعي أي نوع من حسن التقدير للأمور في تصرفاته، ويكون سلطان الهوى متحكما فيه، لذا تجده متعسفا في استخدام الحق. إنهم يختلفون حسب البيئة والمجتمع الذي يعيشون ضمنه، إنهم يختلفون حسب ثقافتهم الاجتماعية، ومصادر فقههم، فمثلا قاض في القاهرة ينظر في قضية إدارية هناك، يجب أن تختلف نظرته عن زميل له ينظر في ذات المسألة في الدوحة رغم وجود النصوص القانونية المتشابهة. ما أردت قوله إن في كل مجتمع إنساني نوعين من السلوك، الأول السلوك الواقعي كما يقول بذلك أصحاب مدرسة علم الاجتماع، أو إن شئت طلاب العلوم السياسية، وهذا السلوك ينظر إلى ما هو كائن وليس كما يجب أن يكون عند النظر في أي مسألة. أما النوع الثاني فهم أصحاب المدرسة المثالية القائلين بما يجب أن يكون عليه العمل، أي ما تعارف عليه المجتمع وأنظمته، ومن هنا يحدث الاختلاف. (2) وللخروج من هذه المسألة النظرية فإنه من الضروري في أي مجتمع كان أن يهتم القاضي قبل أن يمارس القضاء بدراسة علم الاجتماع دراسة متأنية لأن تلك الدراسة ستعينه على أن تكون أحكامه متطابقة حسب قواعد وأعراف المجتمع وسلوكه في التعامل مع أحكام القانون ومواده. فمثلا أمام القاضي مسألة ينظرها تتعلق بإجراء إداري اتخذه موظف ما في مؤسسة ما يعتقد الموظف من واقع خبرته أن كل إجراء إداري يقود إلى تسهيل التعامل مع المستهلك - العميل إنما يعود بالنفع على المؤسسة ونتيجة لقراره عليه أن يتحمل المسؤولية عن أي سلبيات تظهر. في هذه الحالة وقبل الوصول إلى القضاء فعلى الإدارة المعنية أن تنظر إلى حيثيات المسألة موضع الخلاف فإن رأت أن ما فعله الموظف المعني يدخل في باب تسهيل أعمال المؤسسة واستقطاب عملاء جدد وتوسيع دائرة الأعمال، وأن المقاصد حسنة لمعرفة المؤسسة بسلوك الموظف وحسن الأداء في وظيفته فمن حق الإدارة المعنية أن تتخذ ما تراه تجاه موظفها، وفي الغالب في مثل هذه الحالة تكتفي المؤسسة المعنية بلفت نظر موظفها إلى الخسارة التي تحملتها المؤسسة والتنبيه بعدم العودة إلى مثل تلك القرارات، بعض المؤسسات تحمل الموظف المعني ما ترتب على ذلك من خسائر مادية والبعض الآخر يحمل تلك الخسارة حساب الأرباح والخسائر في نهاية المدة لأن الموظف اجتهد وأخطأ وطبقا للقاعدة القائلة " للمجتهد أجران " يقول الدكتور عاطف عبيد أستاذ إدارة الأعمال المرموق ورئيس وزراء مصر الأسبق لطلابه إن المؤسسة لا تتساهل في أي خطأ ترتكبه السكرتيرة التنفيذية سواء كتابة تاريخ الرسالة أو التقرير أو كتابة رقم بالخطأ فالقرار هنا هو إخراجها من هذا المركز إلى مكان أقل منزلة، أما المدير العام أو من في حكمه إذا ارتكب خطأ وحمل المؤسسة خسارة مالية محتملة فيكتفي بلفت النظر دون العقاب لأن ذلك ناتج عن اجتهاد وليس عن إهمال أو بسوء نية، وعلى ذلك يجري القياس. (3) المعروف أن لكل مؤسسة لوائحها وأنظمتها الداخلية وأن المساءلة القانونية عن أي خطأ ارتكبه أحد موظفي تلك المؤسسة ينظر إليها داخل تلك المؤسسة ما لم تكن مسألة جوهرية كالتزوير، والاحتيال، والسرقة، وما في حكم تلك المسائل. في هذه الحالة المؤسسة من حقها إحالة ذلك الموظف إلى القضاء وعليه أن يأخذ مجراه. أما إذا كانت المسألة إدارية إجرائية وقد نظرتها المؤسسة المعنية واتخذت فيها عقابا طبقا للوائح المعمول بها في المؤسسة فالكاتب لا يرى ضرورة في رفع الدعوى أمام القضاء ولا يحق لطرف ثالث في رفع الدعوى في ذات المسألة أمام القضاء إلا إذا كان الطرف الثالث متضررا وفي هذه الحالة الدعوى تقام على المؤسسة وليس على الفرد الموظف، وعلى المؤسسة في هذه الحالة حماية منتسبيها وإلا قل الاجتهاد وضعف الانتماء وشاع بين الموظفين عدم حماسهم للعمل بروح معنوية عالية. (4) لنفترض أن هذه المسألة رفعت أمام القضاء من أي طرف كان فإن مهمة القاضي في هذه الحالة التأكد من أن هذه المسألة لم تعرض أمام أي جهة ولم يتخذ حيالها أي إجراء جزائي من قبل المؤسسة المعنية فإن وجد أنه قد تم البت فيها وأن عقابا قد وقع على الموظف وقبل به ولم يعترض فالرأي عندي أنه لا يجوز النظر في مسألة واحدة مرتين والقاضي من حقه الحكم ببطلان الدعوى وإغلاق ملفها لأنه لا يجوز معاقبة الموظف مرتين على خطأ إداري اجتهادي. آخر القول: قضاتنا رحمهم الله من مجتمعات مختلفة، ومدارس فقهية مختلفة وسلوك قضائي مختلف، دعوتي لهم الاهتمام بعلم المجتمع القطري وعاداته وتقاليده قبل اللجوء إلى المواد القانونية الجامدة.