15 سبتمبر 2025
تسجيلينقل الكاتب الصهيوني "حاييم شان" تراتيلا يتغنى بها العرسان اليهود يوم زفافهم قديما في بلاد أوروبا، إذ ينشدون: "إذا نسيتك يا أورشليم تنساني يميني ويلتصق لساني بحلقي إن لم أذكرك وأرفعك يا أورشليم على رأس فرحي"... شان هذا ينقل أهازيج يهود أوروبا كي يصل إلى جملة الفصل في مقاله وهي أن من يحكم القدس يحكم "أرض إسرائيل" كلها وما قاله ليس كله كذبا أو أحلام صهاينة، بل هو التاريخ فعلا، فكل إمبراطوريات العالم القديم التي جاءت للشرق العربي هدفت لاحتلال القدس وآخرها بريطانيا العظمى، لذلك يؤمن اليهود الصهاينة بأن القدس هي مفتاح ملكهم وسرّ قوتهم، بينما العرب باتوا لا يؤمنون بشيء سوى بالمجتمع الدولي ومجلس الأمن العاجز والأمم المتحدة منتهية الصلاحية لدى إسرائيل، وبيانات الشجب والاستنكار، ويتركون القدس لنسائها وشبابها لتقاتل هي وربها.في الأمس مضى على "مؤتمر مدريد" الشهير ثلاث وعشرين سنة، مؤتمر سلام باهت، وبقيت وحدها المقاومة في فلسطين الممثل والمدافع والمفاوض الحقيقي للشعب الفلسطيني الحيّ الذي اشترك "بارونات العرب والغرب" في قتله وطنيا ومكانيا ومعنويا، فشردوهم وهجروهم، لا ليصبحوا طرائد للعدو المحتل، حتى أناشيد الثورة و"فلسطين داري ودرب انتصاري" ذهبت أدراج رياح السلام الكاذب بلا وجه ولا وجهة.زرافات اليهود المهاجرين احتلت كثيرا من أرض فلسطين، وهجّرت أهلها، واجتثت عائلاتها من جذورهم، وقتلت من صادفته فوهات البنادق التي أصبحت كالمناجل تحصد كل رأس شامخ.. فماذا حصل؟. لقد أوجد الجميع لهؤلاء المهجرّين الفلسطينيين أوطانا جديدة غير فلسطين، ففتحوا لهم بوابات العبور من أقصى الأرض إلى أقصاها، وتكفلت الأمم المتحدة بإنشاء وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين ومولتها دول العالم الغربي، كي تبقى صنبور ماء يسقي تلك المخيمات التي بنيت في العرّاء، ثم لترسم سياسة ترحيلهم إلى دول المال السهل والنفط المتدفق كي يعملوا فيها ويأنسوا عالما غير عالم فلسطين، وأرضا غير أرض فلسطين، ولا بأس أن تبقى فلسطين مجرد هوية في ذاكرة الكبار، وحكاية يسمعها الصغار، ليذوب الأحفاد في مجتمعات الأولاد والأسياد، لا يمتون إلى فلسطين إلا بمعاناتهم التي استوحوها من الثقافات التي رسمتها أحلام العودة الضاغثة. ثلاثة وعشرون عاما مضت على "مدريد" ومنذ ذلك الحين لم يستطع أحد علاج السرطان الصهيوني في الجسم العربي وكأنه كان الموعد الأول لظهور الكيان الصهيوني وإعلان دولة إسرائيل، فهي لا تزال تغسل أيديها بالدماء العربية، وتكحل عينيها بالتراب العربي المقدس، وتسرح شعرها الأشعث بأمشاط الزيتون العربي، قرابينها رقاب الفلسطينيين، وهواية قادتها تدمير بيوت العرب، ومنذ ذلك الحين الأول ولهذا الحين الأخير، والمشهد ذات المشهد، إسرائيل تقتل والعرب يدفعون الديةّ، وإسرائيل تدمر والعرب يتبنون مشاريع إعادة الإعمار، ولكن في غير ذات الديار، ديار مريم ابنة عمران التي جاءها المخاض تحت تلك النخلة التي لم تطأطئ على مر القرون والأزمنة إلا لله، حتى داس أرض مسجدها الأقصى دنس المتطرفين وآخرهم الصهيوني المتطرف "موشيه فيجلين" وعصابته..لم يغير مؤتمر مدريد شيئا، من ثلاثينات القرن الذي شهد خروج الدابة الصهيونية التي ابتلعت الأرض وشربت دماء أهلها، وانفجر به الشعب العربي الواحد بالمظاهرات والمسيرات، وتأريخ اللحظة التي سال فيها الدم العربي ودمرت أول قرية حتى ذيـل توقيع خانع وثيقة استسلامية تراجعية، لم يتغير شيء، لم تغير أصوات الحناجر أي شيء على أرض الواقع، بينما غيرت أصوات الطائرات وهديرها، وجلجلة الدبابات وجنازيرها، وأزيز الرصاص وذبائحها، غيرت وجه الخريطة، غيرت وجه الوطن، ورسمت إحداثياتهم على أرضنا، هذا إن كنا فعلا عربا، ولم نعد عربانا، وغربانا ليس لنا سوى الخرائب نسكنها ونـسكن التاريخ معنا في خرائبنا.فلتبقى يا قدس ثغرا مرابطا، وخيمة فضائية، تهزك أصوات العائدين بلا سفينة، المجدفين بلا ماء وجه ولا حياء.. وستبقى القلعة الأولى والأخيرة منذ عهد السابقين السابقين وحتى اللاحقين الحاضرين دم واحد وصوت واحد بلا استحياء، شعب من التراب وإلى التراب ومن البحر حتى النهر ومن الخضراء حتى الصحراء، شريان من الدوحة حتى غزة، ومن دارفور حتى نابلس ومن مكة حتى بيت المقدس تفدي المسلمين النائمين والعرب المشغولين بالدماء وتحمي كرامتهم، فالزعامات التي جاءت بها الدبابات حساباتها بالنفط والدولار، وحسابات النساء والأطفال والشيوخ في فلسطين بالدماء، لا يتذكرون تاريخا للمفاوضات السرية في اوسلو ولا العلنية في مدريد، فالقدس جائزة لا يفوز بها سوى الشهيد.