16 سبتمبر 2025

تسجيل

قطر: ثقافة المقاهي أم المقاهي الثقافية؟

03 أكتوبر 2023

للقهوة خصوصية عربيّة، وقد حظيت بتاريخ لم يحظ به أي مشروب، إذ خُصّص لها يوم عالمي لأنها ثقافة عالميّة أطلق على مقاهيها (مدارس المعرفة) نظراً للثراء الفكري والأدبي الذي أنتجته على مر العصور، وقد نجحت قطر عام 2015 في وضع مجالسها العربية ضمن قائمة التراث الإنساني، كما اعترفت اليونسكو بها من قبل جزءاً من التراث العالمي غير المادي. نفخر بالإنجاز الثقافي لدولتنا فيما ارتبط نشره بالعرب على يد الإمام اليمني علي بن عمر الشاذلي في هجرته لها إلى الحبشة وتفحص ثمرتها وغلي حبيباتها ونشرها كمشروب معين على العبادة والعلم ومنه انتشرت في اليمن فالحجاز فشبه الجزيرة العربية فمصر فالدولة العثمانية فالامبراطوريّة المجريّة والنمساويّة فأوروبا فالعالم، وكلنا يعلم نسبة القهوة الرفيعة بـ «الشاذليّة». وإذا كان الغربيون والمستشرقون حققوا رسائل العلماء العرب السابقين في القهوة ومعارك حلّها وتحريمها فإن الأجمل تلك التي لخّصتها كمدلول ثقافي فكري مثل كتاب (المقاهي الثقافية من القاهرة إلى باريس) للومير. عن مقاهي الثقافة نتحدّث لا عن ثقافة القهوة كمشروب عابر، حيث كانت محفلا للفلاسفة والأدباء ومهرجانات عربية فكرية وشعريّة وسياسيّة همّشها أبناؤها فحوّلوها إلى ثقافة استهلاك وترفيه تحتفي بشربها لا فن احتسائها ومترادفاته، إذ لو وجهت سؤالك للجيل الجديد: ماذا تعني لك القهوة وماذا تعني لك المقاهي؟ ستجد إجابة مختلفة عن تلك التي تعنيها لدى جيل الآباء والأجداد، تماما كالفرق الذي نراه بين ارتياد مقاهي ستاربكس وكوستا أو المحدثات منها في جوار مقاهي مصر القديمة العريقة ومقاهي لادوريه في جوار مقهى فلور في باريس. ربما تستحق ظاهرة الولع الجديد بالقهوة وارتياد المقاهي لدى هذا الجيل وتراجع المنجزات الفكريّة والأدبية المتناسبة مع الوقت المستغرق في مقاهيها دراسة اجتماعية تحليلية حولها واستثمارا في المضمون المزمع من أكبر تجمع فريد للشباب ولكل أطياف الشعوب. فالقهوة ثروة في ذاتها ومجالسها يجمعنا تاريخها وحبّها ونختلف في طرق ووقت ومضمون الاحتفاء بها. يوم 1 أكتوبر كان اليوم العالمي للقهوة واحتفت بها وزارة الثقافة القطرية بشكل غير مسبوق وخصصته للقهوة القطرية ويحمد لها إرساء التذكير بثقافتنا والتراث والهوية والتوعية بقيم كرم الضيافة وحفاوة الاستقبال. كنّا نتمنّى أن تتزامن مع الاحتفال برامج مجتمعيّة، وأن تؤسّس الثقافة كوزارة في مثل هذه المناسبة عودة وإحياء للمقاهي الثقافية ونتجاوز مجرد ثقافة المقاهي التجارية خصوصاً وأن عدداً واعياً من شباب قطر يحمد لهم إدراج مفهوم الثقافة والقراءة والفن في مقاهيهم المختصة. وهنا نتساءل: ما الذي يمنع وزارة الثقافة من أن تحوّل المكتبات الرسميّة الجامدة التابعة لها في العاصمة وفي المدن القطرية من بيوت كئيبة مستأجرة إلى مراكز إشعاع وفكر ومحافل تجمعات أدبية وفنيّة متَضمّنة للمقاهي، بحيث تستثمر لها مواقع جديدة حيوية وجذابة، خصوصا وأن دولة قطر الحديثة تزخر بالمراكز والمدن التراثية المأهولة في المدن البحريّة كالوكرة والخور والرويس ودخان والمراكز المدنية المهمة في المدن الداخلية فيها؟. في 14-16 سبتمبر أقيم ولأول مرة «معرض الدوحة العالمي للقهوة» بشعار: «ارتشف وتذوق واحتفل: ثمّ اكتشف ثقافة القهوة» وكان بالإمكان أن يتزامن مع يوم القهوة وتتكاتف فيه المؤسسة الثقافية والقطاع الخاص لتلتقي الإنجازات والأهداف من مجرد التسويق الذي غلب الثقافة. على الرغم من ذلك فإن ما استرعى الانتباه في المعرض هو تلك الفكرة الواعية المثقفة لمتحف الشيخ فيصل بن جاسم في معرض (قهوة لشخصين: حوار الثقافات) باللغتين مع التركيز على مفهوم المعجم واللغة العالمية للقهوة وتاريخها وانتقالها للغرب مرورا بسلاسلها العالمية كونها محفلا للتعارف وتلاقح الأفكار والحوار عبر الثقافات. وجاء (بيت الشَّعَرْ) فيه قيمة عربية ذكيّة وكنا نتمنى لو لم تغب عن قهوته أيضا الجلسات الثقافية ومساجلات الشعر خصوصا وأن قطر تزخر بشعراء مبدعين في الفصحى والعامية قطريين وعرب، والذي سجّل جمال مساجلاتهم على منصات التواصل حضورا مشهودا. فبينما سطر عرب الجزيرة والخليج كرم ضيافة القهوة بهزّ ثلاثة فناجين كان حرّياً أن تثقفهم المجالس في الوزارات والمؤسسات فوق الثقافة الوالدية المضامين الاجتماعية لها تلك التي اسموها على التوالي: فنجان الضيف.. تيمنا بإكرامه، وفنجان الكيف سعيا لإرضاء كيفه وإشباعه وفنجان السيف والذي يعني دخوله في حلف أمنهم وأمانهم ودفاعهم. القهوة ثقافة تستدعي أن تتكاتف لها وحولها البرامج الحكومية والخاصّة حتّى لا تتحول القوة العميقة الممتدة للثقافة العربية في المعنى القريب لها إلى مجرد استهلاك يملأ المعدة أو ارتياد عابر يملأ نظرات العيون. أما على المعنى البعيد للتحليل الاجتماعي للقهوة فحري بنا أن ندرس ما وراء سطور ثقافتها. فهناك فرق بين من يقرأ الفنجان وبين من يقرأ ما وراء الفنجان.