20 سبتمبر 2025
تسجيللم يكد المصريون يفرحون بثورتهم الميمونة، حتى حسدوا أنفسهم – فيما يبدو – على ما آتاهم الله من فضله ودعمه ونصره، فانطلق كثير منهم يعيثون في الأرض فسادا، فتزايدت حوادث القتل، وازدهرت تجارة السلاح، وفشت جرائم قطع الطرق والسرقة بالإكراه، والتعدي على الممتلكات العامة، والمواطن الغر البسيط معذور إذا عزا هذا كله إلى تداعيات الثورة، وكأن الثورة لم تستهدف إسقاط حاكم فاسد، وبطانة أشد فسادا من لصوص وقتلة ومزورين ومجرمين، بل كأن الثورة استهدفت (استقرارا) اجتماعيا راسخا، سرعان ما خار وسقط كما تخور نخلة نخر السوس بطنها فتهوى فجأة. والحق أن ذلك الاستقرار الذي خار فسقط ما كان ليهوى بهذه السرعة وهذه السهولة، لو كان مؤسسا على قيم أخلاقية، وعادات سلوكية، مرجعها إلى مبادئ الدين أو مبادئ الأخلاق الرفيعة، لكنه كان مؤسسا على قمع تشريعي، وضبط أمني، يأخذ العاطل بالباطل، ويعصف بالكبير والصغير، ويساوي بالكرام اللئام حفاظا على استقرار الحكام، ولم يكن في حساباته استقرار (نظام) اجتماعي، بل مجرد حرص على عدم نيل لوم من سادته الحكام، وكان عسف نظام الأمن بالناس عاملا حاسما في توسيع تلك الهوة النفسية السحيقة بين الجماهير وبين الشرطة، فكان كلا الطرفين يضمر للآخر كل ما ببواطن النفس الإنسانية من نوازع الغل والكراهية والحقد. حتى إذا أفلت العيار، وسقطت أعمدة نظام الحكم الهش، سارع الضعاف للانتقام ممن كانوا بالأمس يستقوون عليهم بالسلطة تحت ستار خادع هو (حماية سيادة القانون) وعاش الناس خمسين عاما مكبوتين ينافقون تلك اللافتة المخادعة (القانون) وهم يعلمون أنهم كاذبون في مشاعرهم نحوها، وأن من يرفعونها هم أول الكافرين بها الهاتكين لحرمتها. وهكذا... اتسعت هوة انعدام الثقة بالقانون بين الناس وهم يرون دماء القانون تهمي أنهارا على أراضي الدولة المنهوبة، وهم يرون دماء القانون تسيل غزارا على أقدام قتلة الفنانات، وتجار القمح المسرطن، وأصحاب البواخر التالفة، وتجار الدماء المغشوشة، ومزوري الشهادات، وإسكافية القوانين/ الأحذية التي تسهل لكل مجرم النفاذ من ثغرات قانونية صاغها باقتدار فذ لصوصٌ جهابذةٌ في اللصوصية وإن ارتدوا أرواب الجامعات وحملوا ألقابها. واليوم تمر الشهور والأسابيع والقلاقل تتزايد في مشارق البلاد ومغاربها، شماليها وجنوبيها، قراها ومدنها، والناس تصرخ ولا تجد سميعا، والناس معذورون حقا لأن حكومات اللصوص والقمع في الخمسين عاما الماضية لم تكلهم إلى أنفسهم مرة واحدة بل كانت تعامل الجماهير على أنها أهون من بعوضة، وأضعف من ذبابة، ولا تستحق أن تحكم نفسها بنفسها، بل يجب أن تحكمها تلك الطغمة من الفجرة الذين جاء بهم هذا الحاكم أو ذاك بمعايير لا يعلمها أحد، والناس معذورون حقا لأن حكومات اللصوص والقمع في الخمسين عاما الماضية كانت تفكر نيابة عنهم وتصوت في الانتخابات نيابة عنهم وتتخذ القرارات باسمهم نيابة عنهم، فلم تجرب الجماهير (الشعور بالمسؤولية) مطلقا من 1952حتى اليوم. فإذا بها بعد ثورة يناير ترى هذا الانفلات السلوكي، وهذا الشذوذ الصارخ في التفكير والتعبير وهذا الإعلام المتفجر بذاءةً وإسفافا وتفريقا بين الناس ولا تملك من أمر نفسها شيئا، فترتد – بحكم العادة – إلى صدر الحكومة تلتمس فيه حضنا حاميا ودرعا واقيا وملاذا آمنا، فتفاجأ بحكومة ساهية لاهية مغروسة أقدامها في آلاف القضايا الداخلية والخارجية لا تكاد تفيق منها. فييأس الناس من الحكومة ويهرعون إلى المجلس العسكري فيرونه غارقا أكثر في مخلفات النظام الذي هوى، يقيم من تلك المخلفات ما اعوجّ من قرارات، ويصلح منه ما التوى من قوانين، ثم تفاجئه أزمات أمنية عنيفة هنا أو هناك. فلا يكاد يجد وقتا لإسعاف الناس بما يشتهون من استقرار وأمان. ولا أظن المجلس العسكري ولا الحكومة قادرين على التدخل لإقناع الناس بعدم إلقاء القمامة في نهر الطريق بعيدا من براميل القمامة، ولا أظنهم قادرين على إقناع سائقي النقل الثقيل بعد غشيان الكباري العلوية المحرمة عليهم، ولا أظنهم قادرين على إقناع موظف صغير بأن يقنع بالحلال من الرزق ولا يرتشي. ولا أظنهم قادرين على إقناع تجار السلاح بالتوقف عن هذه التجارة الآثمة التي يقوِّض أمن الناس. ولا أظنهم قادرين على إقناع هذا الشباب المنفلت بالدراجات النارية الصينية الصغيرة الرخيصة المتاحة يقلقون القابعين في بيوتهم بأصواتها المزعجة، وفرملاتها القبيحة المفاجئة، ويزرعون الرعب في قلوب الكبار والصغار وهم يركضون بتلك الثعابين بين تجمعات المشاة الآمنين. لن يصلح لمواجهة هذا الانفلات السلوكي الخطير إلا (نظام إعلامي) صارم تتوافق عليه القنوات الرسمية والخاصة فورا فورا فورا، (نظام دعوي) صارم وعاجل يتوافق عليه علماء الدين والدعاة وينفذونه فورا فورا فورا. فالناس أسمع للإعلام وللدعوة منهم لقرارات الحكومة، والكثرة الكاثرة من المصريين لا تطالع صفحة المجلس العسكري على الفيس بوك التي اختارها المجلس للتواصل مع شعبه الأمي. ولكن الناس يسمعون الشيوخ والقساوسة فيقتنعون بما يقولون، ويخجلون من أخطائهم. ويسمعون منى الشاذلي ويسري فوده ومعتز الدمرداش وغيرهم من نجوم المذيعين، ويفهمون عنهم ويقتنعون بما تبث برامجهم. ويسمعون الإذاعة، وإذاعة القرآن الكريم بنوع خاص، فيقتنعون بما يسمعون. [email protected]