29 أكتوبر 2025
تسجيل: يتساءل كثير من الناس عن حكمة مشروعية الصيام ، مع شدة الحر، ومجيء رمضان فى عز الصيف هذا العام ؟ ج: الحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه وبعد فقد قال تعالى :"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ *أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ *شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ"1 وفى الصحيح""بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ، شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ".2 فى هذه النصوص من شقي الوحي الكتاب والسنة دليل على وجوب صوم شهر رمضان، وأنه من أركان الإسلام ومبانيه العظام، وشعبه الكبار ولقد فرضه الله تعالى على عباده لحكم عظيمة، وأسرار باهرة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها.وهاك بعضا منها: 1) من حكم الصيام وأسراره أنه عبادة لله تعالى يتقرب العبد فيها إلى ربه بترك ما يحب ويشتهي، طاعة لربه، وامتثالاً لأمره، فيظهر بذلك صدق إيمانه، وكمال عبوديته لله، وقوة محبته له. ورجائه ما عنده، لأنه علم أن رضا مولاه في ترك شهواته، فقدّم رضا مولاه على هواه ورضا نفسه، ولهذا كان كثير من المؤمنين لو ضرب أو حبس على أن يفطر يوماً من رمضان بلا عذر لم يفعل.قال تعالى:" وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِينا"3 وفى الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَىَ سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلاَّ الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي"4. 2) ومن حِكم الصيام أنه سبب التقوى، وتزكية النفس، بطاعة الله فيما أمر، والانتهاء عما نهى، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون (5) والتقوى جماع خيري الدنيا والآخرة، وكلُّ ثمرة من ثمار الصيام فهي ناشئة عن التقوى.بل إن التقوى هي الغاية من وراء سائر العبادات ، قال تعالى :"يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون"6.وفي الحج قال تعالى :"لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم"7. 3) ومن حِكم الصيام حبس النفس وكسرها عن الشهوات، وفطامها عن المألوفات، وتضييق مجاري الشيطان من العبد، بتضييق الطعام والشراب، فيضعف نفوذ الشيطان، وتقل المعاصي.فى الصحيح عن عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ :" يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ"8 وفى هذا الحديث الصحيح إرشاد العاجز عن تكاليف إنشاء وإقامة الحياة الزوجية إلى الصيام لأن شهوة النكاح تابعة لشهوة الأكل تقوى بقوته وتضعف بضعفه وكثير من الناس الآن يصومون، لكنهم لا يجدون لهذا الصيام أثراً لتخفيف حدة الشهوة، وذلك أنهم لم يذوقوا ألم الجوع والعطش والتعب، بل ظلت نفوسهم متعبة بالشهوات، وأنّى لهم أن يتركوها وقد أضافوا إلى صومهم كل ما تعف النفس عن رؤيته من أفلام خليعة ومسلسلات ماجنة. 4) ومن حِكم الصيام أن القلب يصفو، ويتخلى للفكر والذكر، لأن تناول الشهوات يقسّي القلب، ويعمي عن الحق، والصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها وقوتها وعافيتها.والعود كلما خلا جوفه حلا صوته. وإذا امتلأت البطنة قعدت الفطنة. فقلة الأكل تحد الفهم، وتقوى الحواس، كما أن كثرة الأكل تعمي القلب وقلة الأكل تمنع كثيراً من الباطل كما أن قليل النار يحرق كثير الحطب.(9) كان سقراط الحكيم قليل الأكل خشن اللباس، فكتب إليه بعض فلاسفة عصره: أنت تزعم تحسب أن الرحمة لكل ذي روح واجبة، وأنت ذو روح، فلم لا ترحمها بترك قلة الأكل وخشن اللباس؟ فكتب في جوابه: عاتبتني على لبس الخشن وقد يعشق الإنسان القبيحة ويترك الحسناء، وعاتبتني على قلة الأكل، وإنما أريد أن آكل لأعيش، وأنت تريد أن تعيش لتأكل: والسلام. فكتب إليه الفيلسوف: قد عرفت السبب في قلة الأكل، فما السبب في قلة كلامك، وإذا كنت تبخل على نفسك بالمأكل، فلم تبخل على الناس بالكلام؟ فكتب في جوايه: ما احتجت إلى مفارقته وتركه للناس، فليس لك والشغل بما ليس لك عبث، وقد خلق الحق سبحانه لك أذنين ولساناً لتسمع ضعف ما تقول، لا لتقول أكثر مما تسمع والسلام10.وقيل للحارث بن كلدة طبيب العرب: ما أفضل الدواء؟ قال: الأزم - يريد قلة الأكل- ، ومنه قيل للحمية: الأزمة، وللكثير أزمات.وقيل لآخر: ما أفضل الدواء؟ قال: أن ترفع يدك عن الطعام وأنت تشتهيه.أبو الأشهب عن أبي الحسن قال: قيل لسمرة بن جندب: إن ابنك إذا أكل طعاما كظّه حتى كاد أن يقتله. قال: لو مات ما صليت عليه!11 5) ومن حكم الصيام معرفة نعمة الله على العبد بالشبع والرّي إذا تذكر بالصيام الأكباد الجائعة من الفقراء والمساكين، فيشكر ربّه ويحسُّ بآلام إخوانه المعدمين. والنعم لا يعرف قدرها إلا بفقدها.فالصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضي.قيل ليوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام : أتجوع وفي يدك خزائن الآرض، قال: أخاف أن أشبع فأنسى الجياع12. فكان عليه السلام لا يشبع في زمان القحط، لئلا ينسى الجياع، وكان عمر رضي الله عنه يصر بطنه عام الرمادة فيقول: قرقري إن شئت ولا تقرقري، فوالله لا شبعت والمسلمون جياع13. 6) ومن حكم الصيام ما يترتب عليه من الفوائد الصحية، التي تحصل بتقليل الطعام. "مَامَلأَ آدمِيٌ وِعَاءً شَرّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابنِ آدَمَ أُكُلاَتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فإِنْ كَانَ لاَ مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلْثٌ لِنَفَسِهِ".14 والصحة من أجل وأعظم نعم الله تعالى على خلقه قال رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وَآلِه وَسَلَّم- :" فيما أخرجه البخاري في صحيحه كِتَاب الرِّقَاقِ. بَاب لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ. منْ حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى الله عَلَيْه وَآلِه وَسَلَّم- :" نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ. أي صحة البدن وفراغ الخاطر بهما يحصل الأمن ويبلغ المرء حد الكفاية الأمنية. والمعنى لا يعرف قدر هاتين النعمتين كثير من الناس حيث لا يكسبون فيهما من الأعمال كفاية ما يحتاجون إليه في معادهم فيندمون على تضييع أعمارهم عند زوالها، ولا ينفعهم الندم قال تعالى :" أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ"15 ومما يمتن الله تعالى به على عباده ويؤسس عليه المعاتبة على التقصير في الطاعة مع توفر دواعيها العافية ففي الحديث فيما رواه الترمذي من حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه قال، قال النبي –-صَلَّى الله عَلَيْه وَآلِه وَسَلَّم- -: "إن أول ما يسأل عنه العبد من النعيم، أن يقال له ألم نصحّ لك بدنك، ونروك من الماء البارد"؟ (أخرجه الترمذي وابن حبان) وفي سر الجمع بين الصحة والفراغ قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى : إن الإنسان قد يكون صحيحا ولا يكون متفرغا لشغله بالمعاش، وقد يكون مستغنيا ولا يكون صحيحا، فإذا اجتمعا فغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون، والدنيا مزرعة الآخرة، وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة، فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط، ومن استعملهما في معصية الله فهو المغبون، لأن الفراغ يعقبه الشغل والصحة يعقبها السقم، ولو لم يكن إلا الهرم كما قيل: يسر الفتى طول السلامة والبقا * * * فكيف ترى طول السلامة يفعل يرد الفتى بعد اعتدال وصحة * * * ينوء إذا رام القيام ويحمل هذا وللصوم دور كبير في استرداد الصحة ودوام العافية بل في حفظها وتقويتها شرعا وعقلا وعرفا في كل من البدن والعقل والنفس ففي الأثر "صوموا تصحوا" فالصائم يناله من الخير بصومه في جسمه وصحته ورزقه حظ وافر مع عظم الأجر في الآخرة من صحة وعافية في البدن فليست كثرة الطعام صحة ، وفي العقل بالتهيئة للتدبر والفهم فكلما امتلأت البطنة قعدت الفطنة وما أفلح سمين قط إلا محمد بن الحسن كما قال الشافعي رحمه الله تعالى 7) ومن حكم الصيام أنه شرع لأجل أن يتضرع الإنسان -إذا ما أحسَّ بالجوع- فيدعو ربه، كما ورد في الحديث: "إن النبي صلى الله عليه وسلم عرضت عليه جبال مكة ذهباً، فقال: لا يا رب بل أرضى بأن أجوع يوماً، وأشبع يوماً، فإذا جُعْتُ تضرعتُ إليك وذكرتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك"16 (. فذكر أن الجوع سببٌ للتضرع والذكر. فالإنسان إذا أحس بالجوع يتضرع إلى الله ويدعوه، ويتواضع له، ويكون ذاكراً له، مقبلاً إليه، متواضعاً بين يديه. 8) ترتيب أوقات الوجبات،حيث مع الغروب يكون الإفطار لما في الصحيح عَنْ عُمَرَ -رَضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ، وَأَدْبَرَ النَّهارُ، وَغَابَتِ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ".17 وفي نفس التخريج منْ حديث عَبْدِ الله ابْنِ أَبِي أَوْفَىَ، قَالَ: النَّبِيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. بِيَدِهِ: "إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ مِنْ هَهُنَا، وَجَاءِ اللَّيْلُ مِنْ هَهُنَا، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ".18 وقبيل الفجر يكون السحور للحديث فى فضل تأخير السحور.... فقد أوصي الرسول صلى الله عليه وسلم بضرورة تناول وجبة السحور . فقال - صلى الله عليه وسلم : " تسحروا فإن في السحور بركة "19 ، فهو الغداء المبارك ، وفيه مخالفة لأهل الكتاب ، و " نِعمَ سحور المؤمن التمر "20 ولا شك في أن تناول السحور يفيد في منع حدوث الإعياء والصداع أثناء نهار رمضان ، ويخفف من الشعور بالعطش الشديد . كما حث الرسول صلى الله عليه وسلم على تأخير السحور فقال : "ما تزال أمتي بخير ما عجلوا الإفطار وأخروا السحور" 9) ومن هذه الحِكم والأسرار إراحة جهاز الهضم مدة معينة.ففي الأثر: "صوموا تصحوا" فالصائم يناله من الخير في جسمه وصحته ورزقه حظ وافر مع عظم الأجر في الآخرة ففيه صحة للبدن والعقل بالتهيئة للتدبر والفهم وانكسار النفس إلى رتبة المؤمنين والترقي إلى رتبة المحسنين.وقد جاء فى وصية والد لولده فى الحرص على تقليل الطعام وأثر ذلك لصحة البدن والعقل وطول العمر بحيوية ونشاط ، وعافية وقوة قال الجاحظ: كان أبو عثمان الثوري يجلس ابنه معه ويقول له: إياك يا بنيّ ونهم الصبيان، وأخلاق النوائح، ونهش الأعراب؛ وكل مما يليك، واعلم أنه إذا كان في الطعام لقمة كريمة، أو مضغة شهيّة، أو شيء مستطرف، فإنما ذلك للشيخ المعظّم، أو للصبي المدلّل، ولست بواحد منهما، وقد قالوا: مد من اللحم كمد من الخمر.أي بنيّ، عوّد نفسك الأثرة، ومجاهدة الهوى والشهوة، ولا تنهش نهش السباع، ولا تخضم خضم البراذين، ولا تدمن الأكل إدمان النعاج، ولا تلقم لقم الجمال؛ فإن الله جعلك إنسانا فلا تجعل نفسك بهيمة، واحذر سرعة الكظة، وسرف البطنة؛ فقد قال بعض الحكماء: إذا كنت نهما فعدّ نفسك من الزّمنى؛ واعلم أن الشّبع داعية البشم ، والبشم داعية السقم، والسقم داعية الموت؛ ومن مات هذه الميتة فقد مات ميتة لئيمة، لأنه قاتل نفسه، وقاتل نفسه ألأم من قاتل غيره. أي بنيّ، والله ما أدّى حقّ الركوع والسجود ذو كظة، ولا خشع للَّه ذو بطنة، والصوم مصحّة، والوجبات عيش الصالحين. أي بنيّ، لأمر ما طالت أعمار الهند، وصحت أبدان العرب؛ وللَّه درّ الحارث بن كلدة إذ زعم أن الدواء هو الأزم، فالداء كله من فضول الطعام؛ فكيف لا ترغب في شيء يجمع لك صحة البدن، وذكاء الذهن، وصلاح الدين والدنيا، والقرب من عيش الملائكة! أي بني، لم صار الضب أطول عمرا؟ إلا لأنه يتبلغ بالنسيم؛ ولم قال الرسول عليه الصلاة والسلام: إن الصوم وجاء «2» ؟ إلا لأنه جعله حجابا دون الشهوات؛ فافهم تأديب الله عز وجل، وتأديب رسوله عليه الصلاة والسلام. أي بني، قد بلغت تسعين عاما ما نغضت لي سنّ، ولا انتشر لي عصب، ولا عرفت ذنين أنف، ولا سيلان عين، ولا سلس بول؛ ما لذلك علة إلا التخفيف من الزاد؛ فإن كنت تحب الحياة فهذه سبيل الحياة، وإن كنت تحب الموت فلا أبعد الله غيرك!21 10) إحساس النفس بعز الربوبية وذل العبودية حين يجوع، فيشعر بأن لقمة ترد جوعته، وشربة تروي ظمأه وتحفظ حياته. قال علي –رضي الله عنه - مسكين ابن آدم مكتوم الأجل مكتوب العمل، تؤذيه البقة، وتقتله الشرقة، وتنتنه العرقة، وتميته الغرقة22 11) تربية النفس على العفة والصبر والشجاعة والوفاء والحزم وقوة الإرادة. 12) الشعور وإشعار النفس بالمساواة، فالكل يشترك في الحكم لا فرق بين غني وفقير وعظيم وحقير وأمير وخفير 13) معرفة قيمة وقدر النعمة، كما قيل: لا يعرف المقيم مشقة الراحل إلا إذا ترحل، ولا يعرف الراكب مشقة الراجل إلا إذا ترجل. 14) صحة البدن، حيث يغني ويحلل ما زاد عن الحاجة، والشجر إذا استمر في الماء مات، ويقوى إذا حبس عنه وتعهد به في فترات. 15) و يرقق الفؤاد نحو المساكين، ومن أجل هذا شرعت زكاة الفطر في نهاية شهر الصوم حتى يخرجها القادر. لعلها مقولة الغزالي – رحمه لله تعالى - الصوم.. تأديب بالجوع وخشوع لله وخضوع لكل فريضة حكمة . وهذا الحكم ظاهره العذاب وباطنه الرحمه ، يستثير الشفقة ويحض على الصدقة ، ويكسر الكبر ، ويعلم الصبر ، ويسن خلال البر ، حتى إذا جاع من ألف الشبع ، وحرم المترف أسباب المتع عرف الحرمان كيف يقع ، وألم الجوع إذا لذع. 16) سيطرة الروح على الجسم. 17) مُخَالَفَةُ الْهَوَى؛ لِأَنَّهُ يَدْعُو إلَى شَهْوَتَيْ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ 18) وَالِاتِّصَافُ بِصِفَةِ الْمَلَائِكَة 19) فيه إظهار الخضوع لله عز وجل وتعظيمه. 20) إن الصيام من شأنه أن يوقظ قلب المؤمن لمراقبة الله عز وجل، ذلك لأن الصائم ما إن يستدبر جزءاً من نهاره حتى يحس بالجوع والعطش، وتهفو نفسه إلى الطعام والشراب، لكن شعوره بأنه صائم يحول دون تحقيقه لرغبات نفسه، تحقيقاً لأمر الله عز وجل، ومن خلال هذا التدافع يستيقظ القلب، وينمو فيه شعور المراقبة لله تعالى، ويظل على ذكر لربوبيته وعظيم سلطانه، كما يظل متنبهاً إلى أنه عبد خاضع لحكم الله تعالى، ومنقاد لإرادته، والصيام عبادة بدنية قوامُها ترك المفطرات المعروفة، ولما كان ترك هذه المفطرات سراً بين العبد وبين ربه، فإنه مما لا شك فيه أنه متى تم هذا العمل فيما بين الإنسان وبين الله كان ذلك أعظم لأجره، وأجزل لثوابه. وقد ذكر ذلك كثير من العلماء، فقالوا: إن الصيام سر بين العبد وبين الله. وقالوا: إن ملائكة الحفظة لا تكتبه، لأن الإنسان إذا صام لا يطّلع عليه إلا الله.فإذا صمت فمن الذي يراك في كل حركاتك، وفي كل أوقاتك؟! إن من يغفل عن مراقبة الله له يمكنه أن يفعل ما يريد فيتناول طعامه وشرابه دون ما خوف من الله عز وجل. ولكن العبد المؤمن يعلم أن معه من يراقبه، وأن عليه رقيب عتيد؛ يعلم أن ربه يراه قال تعالى: ((الذي يراك حين تقوم * وتقلبك في الساجدين))23 فإذا كان العبد يؤمن بأن الله تعالى هو المطّلع عليه وحده، كان ذلك مما يحمله على أن يخلص في عمله، كما يحمله على الإخلاص في كل الحالات، ويبقى معه في كل شهور السنة. أليس الذي يراقبنا في رمضان هو الذي يراقبنا في سائر الأوقات؟ فيجب على المسلم أن يستحضر ربه دائماً، فإنه عليه رقيب يعلم ما تكنه نفسه، يقول تعالى: ((ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه، ونحن أقرب إليه من حبل الوريد))24 21) إن شهر رمضان شهر قدسي بين أشهر السنة كلها، يريد الله عز وجل من عباده أن يملؤوه بالطاعات والقربات، ويحققوا فيه أسمى معاني عبوديتهم لله سبحانه وتعالى، وهيهات أن يتحقق ذلك أمام موائد الطعام، وفي مجالس الشراب، وبعد امتلاء المعدة، وتصاعد أبخرة الطعام إلى الفكر والدماغ، فكان في شريعة صيام هذا الشهر أيسر سبيل للقيام بحقه، وأداء واجب العبودية فيه. 22) وفوق هذا كله مغفرة الذنوب ، والعتق من النيران ، بفضله وكرمه نسأله أن يمن علينا بالعتق من النيران, وفى الصحيح أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".25 23) وبالجملة فحكم الصيام وأسراره عظيمة. وفوائده كثيرة، وقد رتب الله عليه من جزيل الثواب وعظيم الأجر. ما لو تصورته نفس صائمة لطارت فرحاً وتمنت أن تكون السنة كلها رمضان. .قال تعالى :"إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً"26 وفى الصحيح عن أبي هريرة – رضي الله عنه قال -: قال رسول الله (: " كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَىَ سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلاَّ الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي.. . الحديث"(27) [رواه البخاري ومسلم]. وقد دلت النصوص على أن من أدى الواجبات والفرائض وترك المحرمات، فهو من أهل الجنة، لما ورد عن طَلْحَة بْن عُبَيْدِ اللَّهِ قال : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، ثَائِرَ الرَّأْسِ يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ وَلَا يُفْقَهُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنْ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ. فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَصِيَامُ رَمَضَانَ قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ. قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزَّكَاةَ. قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ. قَالَ: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ. أو دخل الجنة إن صدق"(28). هذا الحديث دليل على أن مدار الفلاح على الفرائض أما السنن وغيرها فهي مكملات لا يفوت أصل الفلاح بها. هذا وبالله التوفيق ومنه وحده العصمة من الزلل والخطأ والخلل فى القول والعمل. الهوامش: 1 البقرة:183-185 2 صحيح البخاري كِتَابُ الإِيمَانِبَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ»صحيح مسلم كتاب الإيمان. باب بيان أركان الإِسلام ودعائمه العظام. 3 الأحزاب:36 4 صحيح مسلم كتاب الصيام. باب فضل الصيام 5 سورة البقرة، الآية: 183. 6 البقرة: 21 7 الحج:37 8 صحيح البخاري كِتَاب الصَّوْمِ. باب الصَّوْمِ لِمَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْعُزْبَةَ.كِتَاب النِّكَاحِ. باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ.باب مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الْبَاءَةَ فَلْيَصُمْ. صحيح مسلم كتاب النِّكاح. باب استحباب النِّكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة، واشتغال من عجز عن المؤن بالصَّوم. 9 [مجاني الأدب في حدائق العرب 2/ 71] 10 [الكشكول 1/ 175] 11 12 [التمثيل والمحاضرة ص: 14] 13 [نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب ت إحسان عباس 5/ 164] 14 سنن الترمذي كتاب الزهد عن رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم. باب ما جَاءَ في كَرَاهِيَةِ كثْرَةِ الأَكْل. 15 فاطر37 16 أخرجه الترمذي برقم 2347 وقال حديث حسن) 17 صحيح البخاري كِتَاب الصَّوْمِ. باب مَتَى يَحِلُّ فِطْرُ الصَّائِمِ. صحيح مسلم كتاب الصيام. باب بيان وقت انقضاء الصوم وخروج النهار. صحيح مسلم كتاب الصيام. باب بيان وقت انقضاء الصوم وخروج النهار. 18 صحيح البخاري كِتَاب الصَّوْمِ. باب الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ وَالْإِفْطَارِ. باب يُفْطِرُ بِمَا تَيَسَّرَ مِنْ الْمَاءِ أَوْ غَيْرِهِ.باب تَعْجِيلِ الْإِفْطَارِ كِتَاب الطَّلَاقِ. باب الْإِشَارَةِ فِي الطَّلَاقِ وَالْأُمُورِ. 19 رواه البخاري فتح 4/139 20 رواه أبو داود رقم 2345 وهو في صحيح الترغيب 1/448 21 [العقد الفريد 8/ 18] 22 [ربيع الأبرار ونصوص الأخيار 2/ 342] 23 الشعراء:218-219 24 ق:16 25 صحيح البخاري كِتَاب الْإِيمَانِ. بَاب صَوْمُ رَمَضَانَ احْتِسَابًا مِنْ الْإِيمَانِ.باب مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا وَنِيَّةً.صحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها. باب التَّرغيب في قيام رمضان وهو التَّراويح.سنن أبى داود كتاب الطهارة. باب في تمام قيام شهر رمضان. 26 الأحزاب:35. (27)مسند الإمام أحمد والبخاري (4/103)، في صحيحه كِتَاب الصَّوْمِ باب هَلْ يَقُولُ إِنِّي صَائِمٌ إِذَا شُتِمَ ومسلم (1151) (164)، في صحيحه كتاب الصيام باب فضل الصيام واللفظ له من حديث أبي هريرة، وأخرجه مسلم أيضاً (165) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه. سنن ابن ماجه كتاب الصيام. باب ما جاء في فضل الصيام (28)مسند الإمام أحمد. رواه البخاري (1/106)،فيصحيحه كِتَاب الْإِيمَانِ. باب الزَّكَاةُ مِنْ الْإِسْلَامِ كِتَاب الشَّهَادَاتِ. باب كَيْفَ يُسْتَحْلَفُ كِتَاب الْإِكْرَاهِ. باب فِي الزَّكَاةِ. صحيح ومسلم في صحيحه كتاب الإيمان. باب بيان الصَّلوات الَّتي هي أحد أركان الإسلام.