18 سبتمبر 2025

تسجيل

مشاكسات الصغار ومهارة الاحتواء

03 أغسطس 2011

تتخذ الرحلة التربوية لاسيما مع الصغار أنماطاً مختلفةً طبقاً لمواكبة المدارك، وإذ يتسع الأفق شيئاً فشيئاً تبرز الصيغ المختلفة لتعليم الصغير، وتأديبه وتوجيهه في ظل رعاية أبوية حانية، غير أن ما يؤسف له هو اتسام البعض في هذا بالرعونة وفي هذه الناحية بالذات وفقاً لسوء الفهم لطبيعة الصغار من ناحية، والقصور المعرفي من ناحية أخرى، فتجد البعض يتعامل مع الصغار وكأنه يتعامل مع الكبار، بمعنى أنه يصور الواقع من جهة واحدة، وهي التعامل مع الخطأ بأنه خطأ، بغض النظر عن التعامل مع مصدر الخطأ، فالصغير أو الصغيرة حتماً سيرتكب الأخطاء لأن أفقه الصغير لا يحتمل إدراك مغبة الأخطاء فبات حرياً التعامل مع الصغار تبعاً للمراحل العمرية المختلفة بمنظور موضوعي ومرن ينحو إلى إتاحة الفرصة، وتأصيلاً لمبدأ الرحمة في إطار الألفة والروابط الأسرية فضلاً عن عنصر الأمانة بهذا الصدد وهذا أمر بالغ الأهمية لأن الأب مسؤول مسؤولية كاملة تشاركه الأم بطبيعة الحال عن تربية الصغار، وإذا مرض أحدهم - لا قدر الله - فإنَّ الأب يهرع إلى الطبيب وهو يدعو خالقه بأن يشفي فلذة كبده، وحينما يخطئ فإنه لا يتورع عن ضربه بأساليب تفتقر إلى الحس الإنساني في غلظة لا تلبث أن تخلف وراءها تراكمات سلبية، لا تصيب صحة الطفل فحسب، بل تذهب أبعد من ذلك حينما تورث نسقاً عدائياً، يجر خلفه اهتزازات لا تبرح أن تؤثر في شخصيته، وما تحدثه من ارتباك في المستوى الذهني فضلاً عن نشوء حالة من الكره، وهذا الكره ليس لأبيه بل لقسوته عليه، وبالتالي فإنه ينعكس تلقائياً ضد الأب، ولم تكن القسوة عنصراً فاعلاً في التأديب بقدر ما تعد معولاً يقوض عرى الترابط الأسري، وتفشي حالة انعدام التوافق في تكريس للخلخلة الفكرية، وما ينسحب عليها من آثار سلبية على تعليمه وصحته، بل على مستقبله، وهناك محاور عدة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار في هذه الناحية، إذ إن الاستفزازات التلقائية التي تصدر من الصغار لم تكن أنت من يعاني منها، فأطفال العالم لا يخلو منهم أحد في الانسلاخ من هذه الطبيعة الفطرية، بل ربما وأنت صغير كنت تمارس أشد منها، ومن ضمن الأساليب المؤثرة في تقديري كنوع من التأديب أو العقاب أسلوب الحظر الاقتصادي، بمعنى أن تمتنع عن شراء لعبة له أو حلوى، حينئذ فإنه يربط الخطأ بالمصلحة، ولا أعتقد بأنه سيخطئ المصلحة، هذا الأسلوب الحضاري الراقي كفيل بتعليمه وتأديبه، بعيداً عن (العقال)، و(العقال) صنع ليكون فوق الرأس لا فوق الظهر، وقد ينشأ الطفل في صراع مرير مع مجاراة المعطيات، وهذا في الغالب ينجم عن اختلاف النمط التربوي بين الأم والأب، فالأم تفرط في دلال وليدها بموجب محبتها له وعطفها عليه، والأب تطلع (قرونه) لأسباب تافهة ولا تستوجب كل هذا الأمر وربما يكون قد خسر في الأسهم، فيرتبط التأزم النفسي المنبثق من خسارته مع سلوكه تجاه أبنائه، هذا الخلط المريع، مقبرة للإنصاف فضلاً عن التعقل، وكذلك قد يسهم دلال الأم الزائد في جرأة الولد أمام والده ليوقعه هذا القياس المتذبذب أمام فوهة مدفع الأب، الذي لم تنقصه ذخيرة الخسارة ليحيلها إلى جسد ابنه النحيل، مقرونة بالعبارات إياها من حيوان إلى كلب، وقد يخطئ في ذروة الانفعال ويقول ابن الكلب وهنا فقط يكون قد أنصف لأنه لا يختلف عنه كثيراً طالماً كان هذا دأبه وطريقته المعوجة في التأديب. ولاحتواء هذا التأزم المنبعث من هذه الهزات الارتدادية فإن السبيل إلى ذلك يكمن في تحقيق الحد الأعلى من التوازن بكل ما يحمله من أساليب راقية لا تجانبها الحكمة، ولا يغيب عنها العقل الفطن، ومن أبرزها بلا ريب توافق الزوج والزوجة على الأطر التربوية لكيلا ينسف التناقض الاستقرار النفسي والفكري للطفل، فالأم تشحن الطفل وتؤلبه من جهة وهذا أخطر ما في الأمر، لأنها ستكتوي بنار هذا الشحن حينما يبيت التمرد ملازماً للطفل، وقد يتعدى هذا الأمر نطاق الأسرة إلى المجتمع، وهذا ما لا ترغبه حتماً كل أم، فضلاً عن (العلقة) الساخنة أو الباردة التي سيأكلها من والده، فكان لزاماً تشجيع الابن على طاعة والده الذي يرغب في مصلحته.وعندما تكابد الأم مشقة الولادة وإجهاد يخالجها شعور بالسعادة وإرهاق ترافقه ابتسامة، بينما هي لا تعبأ بالآلام حيث تداعبها الأحلام هذا الشعور الفطري النقي هو رمز الارتباط وعمق الالتصاق وترجمة الاشتياق وتجسيد للأمومة حيث يلتصق قلب الأم بالصغير أو الصغيرة، ويقف الأب في حالة ترقب ويتسمَّر خلف الزجاج السميك، ينظر إلى صغيرته.. يستقرئ ملامحها.. تقفز أمام خياله صور من الذاكرة لأفراد العائلة، وهو بالتأكيد يرغب في هذه اللحظة الجميلة بأن يحضنها ويضمها إلى صدره ثم يقبلها، إنه شعور أبوي تحفه الرحمة وتحلق به المودة نحو آفاق المعنى الجميل للأبوة الحانية وللمسؤولية الأدبية وللمشاعر الصادقة. تكبر الصغيرة وتكبر معها أحلام والديها ويستوعب إدراكها الضئيل بعض الأشياء ثم يبدأ الأفق الضيق بالخربشة ومراوغة المنطق وقلة الدراية والتمرد التلقائي كسلوك انسيابي لا تجانبه البراءة. ينهر الأب ابنته الصغيرة ويزجرها بينما هي تمسك بخصلات شعره وتداعبها، مثلما تجر معطفه وتسقط قلمه وأوراقه وتبعثرها، حيث لا يستوعب أفقها الصغير التفريق بين الخطر والمطر وبين الفرح والغضب وبين الرضا والعتب، إذ لم يكن التلقي في مقياس الصغير أو الصغيرة سوى أحجية زاخرة بالتساؤل مقرونة بالتفاؤل، وفي خضم هذا الصخب لا تفتأ تبادر أين الحلوى، يزحف العمر نحو إدراك أوسع وآفاق أرحب بيد أنه لا يصل إلى مستوى يخوِّل العقاب على نحو يوجع الأحباب. فإلى الآباء والأمهات الرحمة.. الرحمة.. الرحمة.. بفلذات الأكباد، خذوهم بالرأفة والحنان، واجتنبوا غضب الكريم المنان، فرحابة صدوركم تعزز مهارة احتواء مشاكسات الصغار وعقولكم الكبيرة لن تعدم الحكمة بإذن الله في صقلهم وتربيتهم وتأديبهم، حفظ الله الصغار والكبار وجعلهم ذخراً لوطنهم ومجتمعهم أبناءً بارين مخلصين لدينهم إنه على كل شيء قدير.