15 سبتمبر 2025
تسجيلشاهدتُ في الأسبوع الماضي فيلماً أجنبياً بعنوان (Big Eyes) يحكي قصة رسّامة موهوبة، يتعرف عليها أحدُهم بالصدفة، وكان يحلم بالشهرة والمال، وثقت الفنانة به وتزوجته، أقنعها بأن يوقِّع على لوحاتها الفنية باسمه، وذلك كسباً للمال، ولأن الفنانة أحبّته، وافقت على ذلك، ويصبحُ الزوج مشهوراً، وأخبارُه تتصدر الصحف، وتلاحقهُ عدساتُ الكاميرات، على أنه صاحب اللوحات التي ترسمها زوجتُه، تقوم ابنة الزوجة - ذات العشر سنوات - بمواجهة والدتها وزوجها بحقيقة اللوحة التي بيعت في مزاد، وكانت ترى أمَّها وهي ترسمها، يظهر الزوج على التلفزيون وهو يكذب فيما يتعلق بمعرفته بالفنون التشكيلية، ويبدأ الجانب (الفاتنازي) في الفيلم، حيث تكرهُ الفنانةُ (الزوجة) لوحاتها التي رسمتها لوجوهٍ بعيون كبيرة، وتقوم برسم وجوهٍ بعيون صغيرة، تحاصرهُ زوجته بالأسئلة، وأنه لم يدرس في باريس، كما يدّعي في وسائل الإعلام، ولا يعرف الرسم.. يثور الزوج ويحرق كُلَّ لوحاتها، تعترف الزوجة بأنه ليس رساماً، يقوم الزوج باتهام زوجته بالهلوسة! يتواجه الزوجان في المحكمة، يطلب القاضي من الزوجين القيام برسم لوحتين أمامه. ترسم الزوجة اللوحة، بينما يفشل الزوج، ويحكم القاضي لها بالحق، توفي الزوج عام 2000، وحيداً ومفلساً، أما زوجته فما زالت ترسم حتى اليوم، لأنها حقاً موهوبة. (انتهى) هذا الفيلم أعادَ لي مشاهدَ عاصرتُها في المجال الأدبي والصحافي طوال خمسين عاماً! فهنالك كُتابُ أعمدة، لا يتقنون اللغة، و»يستأجرون» لهم مَن يكتب نيابة عنهم، لقاء أجرٍ مادي. ونجدهم في الملتقيات الصحافية والأدبية، لا رأي لهم، ويتهربون من مناقشة مقالاتهم! ولم يسبق لأي من هؤلاء أن تحدث في أي منتدى! وفي المجال الأدبي، ظهرت حالات «استئجار» أقلامٍ لكتابة الروايات، فنجد شخصاً يضع اسمَه على غلاف الرواية، على أنه قد كتبها! وإذا ما ناقشته في فصول وأحداث الرواية، لا يعرف بماذا يُجيب! ويقوم بـ «حشر» كلماتٍ ومصطلحاتٍ بعيدة جداً عن سِنّه وخبرته اللغوية! وفي المجال الأكاديمي، ظهرت حالاتُ شراءٍ لأوراق البحث، حيث إن الطالب ليست لديه الحصيلة اللازمة من المفردات، ولا من الأفكار، لدرجة أنه لا يقرأ البحث الذي اشتراه! ليجد الأستاذ ُجملةً في البحث تقول: «وترى الباحثة أنه...» بينما البحث قدّمه طالبٌ (مُذكَّر)! ومن الغريب في ذات المجال، نجد طالباً يقدّم ورقة بحثية، بعد أكثر من 600 يوم من الحصار، فنجد هذه العبارة:» واليوم، وبعد 100 يوم من الحصار..»! ولم يقم الطالب بمراجعة الورقة المُشتَراة، وتصحيح التاريخ!. الأمانة من الأخلاق الحميدة، ولا يتحلّى بها إلّا مَن يَعرف قيمةَ نفسه، وأن اللهاث وراء الشهرة المُزيفة لن يُجدي نفعاً، إن لم يكن المبدع واثقاً من نفسه ومن أدواته! قادراً على التعامل بثقة وصدق مع الآخرين؛ لا أن يتوارى بعيداً عن الإنتاج الذي دفعَ به إلى الناشر أو المطبعة، ولا يستطيعُ الدفاعَ عنه. كما أن الإنسان الذي لم يخلقهُ اللهُ سبحانه وتعالى مُبدعاً، لن يكون مُبدعاً، عبر شراء الذِمم، وخداع القارئ، وبيع الضمير، وأن الأيام سوف تكشف حقيقته، كما يكشف ضوءُ الشمس وجهَ النهار. إن بناء الشخصية المُبدعة يحتاج إلى وقتٍ وخبرةٍ، وتراكُمِ معرفة، ويحتاج إلى قراءاتٍ عديدة لمواضيعَ (كلمة مواضيع ممنوعة من الصرف على وزن مفاعيل.. ولقد قرأتها في بعض الروايات.. هكذا: « لمواضيعٍ» متنوعة. ونفس الحال في المسرح أو التلحين أو الفن التشكيلي! كثيرون ظهروا في المشهد الإعلامي، على سبيل المثال، وتلاشوا، لأنهم يفتقدون الموهبة والثقافة والشخصية واللباقة وحُسن التصرف وراء الميكروفون أو الكاميرا! ولم يكونوا قادرين على تقديم الجديد والمُبهر والمُقنع للجمهور. ونفس الشيء ينطبق على المسرح! إذ إن الفُرص تأتي للجميع، ولكن النتيجة، والوصول إلى النجومية يكسبها الموهوبون. وهؤلاء نَمّوا موهبتَهم بالقراءة والدراسة في تخصص المسرح. هنالك شُعراء يستوقفك شِعرهُم، لأنهم مُبدعون، ويختلفون عن « النَظّامين» الذين درسوا علم (العروض) وحفظوا الأوزان، لكنهم غير مبدعين، لأن مساحة الخيال عندهم محدودة، وثقافتهم في اللغة أيضاً محدودة. الإبداع يعني تقديم الجديد غير المسبوق، وإذا ما استعرضنا مواضيع الشعر العربي القديم، لوجدنا فيها اتجاهات فكرية وفنية متنوعة، فالغزل يختلف عن المديح، وما قالهُ (عنترة العبسي) يختلف عما قاله (المجنون) أو (المتنبي)، ولكُلٍ من المبدعين السابقين، ومَن جاء بعدهم، مدارسُهم واتجاهاتُهم. لكننا – في هذا العصر – الذي اختلطت فيه الأوراق، وباتَ الظهور في وسائل التواصل الاجتماعي، سِمَةَ العصر، وهو المعوّلُ – كثيراً – في الحُكم على عملية الإبداع، حيث نشعر بأننا نتراجع في قضايا الأدب والإبداع عموماً، وكيف أن يافعاً لا يُفرق بين الفاعل والمفعول به، ولا يُدرك ماذا تفعل (لم) الجزم، أن يكتب رواية كلَّ عام !؟ وهو لم يقرأ – على الأقل – خمسين رواية من الأدب العالمي أو العربي!؟ كما أن دُور النشر المحلية مَدعوة لأن تقوم بعملية (غربلة) لكل ما يأتي إليها من الإنتاج الأدبي، الذي يفتقد الإبداع، ويتجاوز أصول الكتابة العربية، ومن هنا يُمكن تصحيحُ الوضع الأدبي لدينا، وأنا أقول هذا الكلام من واقع المسؤولية التي يَتجنّبها كثيرون. كما أن الوضع يتطلب إشراكَ مُتخصصين - في الأدب – في لجان تحكيم أي مسابقة أدبية، وهذا يدعم أهداف المسابقة، لأن التعويل على أسماء تظهر «فقاعات» في وسائل التواصل تشوهُ هذه المسابقات! وإني لأستغرب كيف يُشرك في تحكيم مسابقة مَن لا يعرف شيئاً عن النحو أو المُحسِّنات البديعية أو أصول كتابة القصة؟! إن طباعةَ كُتبٍ مليئة بالأخطاء أو طباعةَ أفكارٍ وضعها آخرون، لن تخلق لدينا مبدعين، تماماً، كما هو زوج الفنانة – السابق الذكر – الذي اغتصبَ حقَّها الفني ليُحقق شهرةً ليست من صُنعه! وفي النهاية انتصرت عليه بفنّها وإبداعاتها الحقيقية. فيا أيها الحالمون، عودوا إلى واقعكم، لأن الشمسَ تكشف كُلَّ ما يجري في «ردهات الظلام»! نقول أخيراً: إن خداع القارئ دَرْبُهُ قصير!.