31 أكتوبر 2025

تسجيل

صرحٌ من ملح

03 مايو 2023

بالأمس القريب، التحق أحد الأصدقاء من حملة الماجستير في الهندسة في إحدى الجامعات الغربية لنيل شهادة الدكتوراه، وبعد ستة أشهر من التسجيل، وبينما هو منهمك في جمع مادة البحث، جاءه إتصال من سفارة بلده في تلك الدولة يخبره بأن الجامعة المعنية قد أرسلت «شهادة الدكتوراه» باسمه إلى السفارة، وطلب منه موظف السفارة، عنوانه حتى يرسل إليه الشهادة، اتصل صاحبنا في الجامعة للاستفسار لعل أن يكون هناك خطأ ما، فكانت الصدمة أن الجامعة قد أصدرت الشهادة بالفعل، وطلب منه تسديد باقي الرسوم ومن ثم إرسال البحث (رسالة الدكتوراه) متى ما شاء. تلك القصة قد تفسر لنا ما حدث في أحد الاجتماعات الدولية التي حضرتها وكان من بين المدعوين شاب خليجي، في الأربعينيات من العمر، ويشغل منصبًا مرموقًا، كنا نشاهد عرضًا تقديميًا باللغة الإنجليزية لأحد المسؤولين الأجانب، كان يبدو وكأنه يستمع للمحاضر بعناية، ويهز رأسه بين الفينة والأخرى، لكنه لم يسأل أو يستفسر عن أي شيء، ولم يتواصل شفهيًا البتة مع المحاضر، وبعد انتهاء العرض التقديمي طلب مني ذلك الشاب أن أسأل المحاضر عن بعض الأشياء التي تم شرحها أصلًا، هنا اكتشفت أن الرجل كان يمثل التفاعل مع المحاضر وأنه في الحقيقة لا يعرف إلا الحد الأدنى من اللغة الإنجليزية، وكم كانت المفاجأة عندما علمت أنه حاصل على شهادة دكتوراة من إحدى الجامعات الأوروبية التي تعتبر اللغة الإنجليزية لغتها الرسمية. ليس خطأ أن يسعى الإنسان لنيل الدرجات العلمية ويبذل الغالي والنفيس من أجل ذلك، بل إن شريعتنا الإسلامية تحث على العلم والتعلم ففي الحديث الذي رواه أبوهريرة عن رسول الله ﷺ أنه قال: (من سلك طريقًا يلتمسُ فيه علمًا، سهَّل اللهُ له طريقًا إلى الجنَّةِ)، لكنَّ التحديات الكبرى كقضايا الفساد والاستبداد، وانتهاك حقوق الإنسان، وتبديد الموارد العامة، وتدني الجدية والإنتاجية، وانعدام المسؤولية، والعبث في الهوية، لا يمكن أن يواجهها أولئك الذين حرصوا على الألقاب العلمية ولم يحرصوا على العلم، فهم جزءٌ من المشكلةِ أصلًا، لقد نالوا الدرجة العلمية لكنهم لم ينالوا شرف العلم. إن هذا الهوس من البعض بالألقاب والمسميات الشكلية، في ظل شح إنتاجهم الفكري والعلمي، وتدني مشاركتهم الجادة في الحراك الثقافي والاجتماعي، وضبابية مواقفهم من المنعطفات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للأمة، لمدعاة للمراجعة والتأمل، والعجيب أنه لم تسلم شريحة من شرائح المجتمع العربي من هذا الوباء الذي تغلغل حتى أصاب البعض ممن يتصدر للدعوة والإصلاح، ونسي أولئك أن هناك قامات علمية وفكرية على امتداد التاريخ العربي والإسلامي، لم تحمل لقب دكتور أو بروفيسور، ومع ذلك كان لها عظيم الأثر على الفرد والمجتمع، بل ما زالت كتبهم تدرس في الجامعات العربية والأجنبية وتشكل مراجع وأمهات الكتب، ويضيء سناها دور العلم. وحتى نكون منصفين، فلا بد لنا أن نثني على الشخصيات المعاصرة من علماء وأدباء ومفكرين، أولئك الذين بذلوا أنفسهم وأعمارهم، وسخروا إمكاناتهم العلمية والأدبية لخدمة مجتمعاتهم بكل الوسائل المتوفرة، نشاهدهم على وسائل الإعلام المختلفة، وتزخر رفوف الكتب بإنتاجهم الفكري الرصين، كما تشبع مصنفاتهم خواء الأرواح، وتملأ إبداعاتهم فضاء المعرفة.