30 أكتوبر 2025

تسجيل

اللهمّ إني صايم

03 أبريل 2022

لم يتبقّ على أذان المغرب وإعلان المؤذن عن بدء وقت الإفطار إلا سويعات قليلة، وبوراشد ما زال مستغرقا في نومه العميق. فهو قد استعد للشهر الفضيل أفضل استعداد، فـ"روتينه" اليومي يبدأ من أول ليلة من ليالي الشهر المبارك، حيث يواصل السهر أناء الليل وحتى صلاة الفجر التي يؤديها جماعة في مسجد "الفريج" وبعد هذا يبدأ بسباته الذي هو أشبه بسبات الدببة الشتوي، فيغلق على نفسه غرفة نومه المزودة بمكيفي هواء من النوع الممتاز واللذين يبلغ مجموع الاطنان التي تعمل على تبريد ثلاجة نومه، عفوا غرفة نومه حوالي الخمسة أطنان تبريد (وحدة قياس) والتي تعمل على خلق مناخ قطبي متجمد. يستفيق بوراشد بعد صلاة الظهر وقبيل صلاة العصر ليؤدي فريضة الظهر ومن ثم يقلب هاتفه بين وسائل التواصل الاجتماعية المختلفة ليسلي بها صيامه، حتى موعد صلاة العصر والتي قد تدخل في بعض أيام الشهر الفضيل تحت روتين السبات العميق، ولكنه يصليها ثم ينطلق ليأخذ جولة في ربوع المجمعات الاستهلاكية ليقف على آخر تطورات السلاسل اللوجستية للأطعمة التي تمتلئ بها هذه المجمعات. تنتهي جولة بوراشد قبل الإفطار بقليل فيتوجه الى مطبخ منزله لتبدأ معانات أم راشد والخادمة مع ملاحظات بوراشد وطلباته، فهو يحب أطباقاً معينة متواجدة على مائدة افطاره المتواضعة، فهو صائم طول اليوم ولابد أن يجد فطورا هنيئا يكافئ به نفسه على الصوم. فلهذا يحرص على تواجد أطباق رمضانية محددة مثل "الثريد والهريس والمجبوس والساقو والسمبوسا والشوربة والمحلبية واللقيمات"، ولابأس بقليل من التمر "الخلاص" وبالطبع لا تكتمل مائدة الإفطار إلا بوجود مجموعة مشكلة من العصائر مثل "الفيمتو والتانج" لتخفف من وطأة الظمأ الذي أجهده خلال صيامه "ولتبرد على جوفه". يجلس بوراشد وأمامه "مائدته المتواضعة" وقد بدأت علامات التوتر ونفاذ الصبر تعلو وجهه، فقد حانت لحظة الهجوم الساحق الماحق.. ويسود الهدوء أركان البيت، وكلٌ ينتظر أن يسمع صوت المؤذن، معلنا انتهاء يوم الصوم والإذن بالإفطار، ولكن هذه الثواني تمر على بوراشد كأنها ساعات طوال، فتراه يتخيل أنه سمع "خرفشة" ميكروفون المسجد، فيصرخ "افتحوا الباب خلونا نسمع الأذان"، فيقفز ابنه راشد بسرعة لفتح جميع الأبواب والنوافذ حتى يطمئن والده العزيز بأنه سوف يكون أول من سمع الأذان وبدأ بالالتهام، فالسنة المؤكدة التي يحرص على اتباعها بوراشد هي سنة تعجيل الفطور. يرفع الأذان ومع نطق المؤذن بحرف الألف من "الله أكبر" يكون بوراشد قد تناول خمس تمرات وشرب كأساً من "الفيمتو" وأكل خمس لقمات من الثريد كبداية، ثم اعتدل في جلسته حتى يتفاهم مع صحن "مجبوس اللحم" الذي يتوسط المائدة، فيبدأ بالتهامه على عجل حتى يستطيع تذوق الهريس بعده والتحلية بالساقو واللقيمات قبل إقامة صلاة المغرب. بالفعل يتمكن بوراشد من اللحاق بالركعة الثالثة من صلاة المغرب في المسجد، فيصليها ثم يرجع الى منزله ويستلقي في صالة المنزل قليلا، فهو مجهد من الصيام، يشاهد خلال راحته هذه بعض المسلسلات حتى يحين موعد صلاة التراويح. يذهب بوراشد الى المسجد ليؤدي صلاة العشاء والتراويح جماعة في مسجد ليس بقريب من بيته، ولكنه يفضل الصلاة هناك في رمضان فقط، لأن إمام هذا المسجد يلقب بالشيخ "التيربو"، وذلك لقدرة هذا الإمام على إنهاء صلاة العشاء والتراويح في أقل من عشرين دقيقة. تنتهي الصلاة ويبدأ بوراشد زياراته على الأقارب والأصدقاء ثم ينتهي به المطاف في مجلسه ليبدأ بقضاء ما تبقى من الليل في مسامرة أصدقائه، ولعب الورق أو مشاهدة المسلسلات التلفزيونية حتى وقت السحور. في واقع الأمر، إن بوراشد يحرص على أن تكون وجبة السحور مثالية وخفيفة لتساعده في القيام بعبادة الصوم، فلا مانع أن يعطيها "كباب مع بصل وخبز إيراني ورويد" أو "مقلي صافي مع شيلاني ودهينه وسلطة" أو للتغيير ممكن "جباتي وكيما مع ناشف لحم او دجاج" ولا مانع من وجود "صحن شكشوكة"، فجميع هذه الأكلات بالنسبة لبوراشد مجرد خفايف. وأخيرا يرفع أذان صلاة الفجر ويبدأ يوم صيام جديد على نفس الروتين. وختاما أقول، قال الإمام ابن القيم الجوزية رحمه الله في كتابه (زاد المعاد) "المقصودُ مِن الصيام حبسَ النفسِ عن الشهواتِ، وفِطامَها عن المألوفات، وتعديلَ قوتها الشهوانية، لتستعِدَّ لطلب ما فيه غايةُ سعادتها ونعيمها، وقبولِ ما تزكو به مما فيه حياتُها الأبدية، ويكسِر الجوعُ والظمأ مِن حِدَّتِها وسَوْرتِها، ويُذكِّرها بحال الأكبادِ الجائعةِ من المساكين، وتضيق مجاري الشيطانِ من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب، وتحبس قُوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرُّها في معاشها ومعادها، ويُسكِّنُ كُلَّ عضوٍ منها وكُلَّ قوةٍ عن جماحه، وتُلجَمُ بلجامه، فهو لجامُ المتقين، وجُنَّةُ المحاربين، ورياضة الأبرار والمقرَّبين، وهو لربِّ العالمين مِن بين سائر الأعمال، فإن الصائم لا يفعلُ شيئاً، وإنما يتركُ شهوتَه وطعامَه وشرابَه من أجل معبوده، فهو تركُ محبوبات النفس وتلذُّذاتها إيثاراً لمحبة اللَّه ومرضاته، وهو سِرٌّ بين العبد وربه لا يَطَّلِعُ عليهِ سواه، والعبادُ قد يَطَّلِعُونَ منه على تركِ المفطرات الظاهرة، وأما كونُه تركَ طعامَه وشرابَه وشهوتَه من أجل معبوده، فهو أمرٌ لا يَطَّلِعُ عليه بَشرٌ، وذلك حقيقةُ الصوم".