12 سبتمبر 2025

تسجيل

الرقابة والإبداع .. مرة ثانية

03 أبريل 2014

من الواضح أن مقالنا فى الأسبوع الماضى " الرقابة والإبداع " قد نكأ جروحا قديمة لدى الكثير من القراء إذ إنهالت على بريدى الأليكترونى رسائل عديدة أغلبها لا يتفق معى فيما ذهبت إليه واتهمنى البعض منهم بأننى أريد غل أيدى المبدعين وتكبيل أياديهم فى الوقت الذى اتفقت معى فى الرأى قلة قليلة . وقبل أن آتى إلى الرسائل المتعلقة بالموضوع الرئيسى فإننى أشير إلى رسالة للصديق عبد الوهاب عيسى متولى ينبهنى إلى أننى قد أغفلت أن أذكر الرسم والنحت ضمن فنون الإبداع التى جاءت فى مقالى لافتا أنها من أهم وأرقى الفنون .. وهو على حق بطبيعة الحال خاصة وأن تاريخنا منذ فجر التاريخ مسجل على أيدى النحاتين والمثالين الذين صنعت أياديهم ما أبهر العالم بأسره من تماثيل فرعونية ولوحات منحوتة فى الصخر تشهد على عظمة حضارة الأجداد ولولا هؤلاء لإندثرت تلك الحضارات أو على الأقل لما أصبحت معروفة بالشكل الحالى .. وطبعا هناك من أساتذة الفنون الذين يستطيعون تناول هذا الأمر أفضل منى .. وأنا على استعداد لنشر رسائل أى منهم كاملة . وإلى رسائل القراء .. يقول أحمد مغازى أن الرمز ليس مراوغة من المبدع بل هو ضمن أهم الجماليات لأى نص .. وأنا أتفق معه ولكن ليس بشكل مطلق فأحيانا يضطر الكاتب إلى الرمز خوفا من السلطة كما فى " الزوجة الثانية " التى ترمز إلى التحايل والخداع وتحليل الحرام باستخدام رجال الدين ( إمام المسجد ) ورجال السلطة ( شيخ الخفراء ) .. ونفس الرأى ينطبق على " شئ من الخوف " .. لولا الرمز لما خرجت النصوص إلى الضوء أو لما تحولت إلى أفلام . وأنا أضيف فى هذا الصدد أن الجملة التى تحمل معان دفينة من ورائها تكون أجمل من الجملة المباشرة .. وأتذكر أن صديقنا الناقد الأدبى المعروف محمد عبد الرازق كان دائما يقول " الجملة الحُبلى أجمل وأروع من تلك الفارغة " .. وذلك طبعا بما تحمله من معان غير مباشرة شأنها فى ذلك شأن الرمز . ويكتب لى الصديق جمال ناجى من دمنهور قائلا أن كبت المبدع وتكبيله أشبه بحرمانه من الماء والهواء ولابد أن يؤدى ذلك به إلى الموت .. وهو يرى أن الحرية لا تتجزأ فكما نؤمن بالحرية فى السياسة وحرية المعتقدات فيجب أن يمتد مفهوم الحرية ليشمل حرية الإبداع دون حسيب أو رقيب اللهم إلا وازع من الضمير .. وأنا أرد عليه بدورى بأننى لم أقل غير ذلك مع اختلاف الكلمات التى استخدمتها . ويذكرنى رفيق الطفولة والصبا كميل جرجس روفائيل بما كتبه الكاتب المبدع يوسف إدريس " إن كل الحرية المتاحة فى الوطن العربى لا تكفى مبدعا واحدا لممارسة إبداعه بشكل كامل بعيدا عن القيود المتعددة التى يفرضها الإستبداد السياسى والتصلب الفكرى والجمود الإجتماعى والتعصب الدينى " .. وأجدنى أتفق معه بأن ذلك كان صحيحا فقط فى الفترة التى عاش فيها أستاذنا العظيم الراحل يوسف إدريس .. أما الآن فالأمر جد مختلف . وأنا أعتذر مرة أخرى لو أنه فهم مما كتبت أننى مع عودة الرقيب أو ما كان يطلق عليه مقص الرقيب بشكله القديم أو حتى بشكل جديد .. أنا طالبت بأن يكون لدى كل مبدع خطوط عريضة يضعها بنفسه ويلتزم بها ولا يخرج عنها طواعية وذلك من أجل الحفاظ على القيم الدينية والمجتمعية .. يعنى ما طالبت به وبشدة هو الرقيب الداخلى . ولعل السبب فيما ذهبت إليه ذلك الإسفاف الذى بات يحاصرنا ليل نهار خاصة فى الأعمال التليفزيونية وتلك الألفاظ البذيئة التى تجعل وجوه الآباء تحمر خجلا أمام أطفالهم .. أنا هنا أتحدث عن الأسر العادية التى تجتمع أمام التليفزيون بعد يوم عمل للأب ويوم شاق فى المنزل للأم .. ويجلسون مع أطفالهم بعد الإنتهاء من المذاكرة وحل الواجبات لبعض الوقت طلبا للتسلية والترويح عن النفس ليفاجأ الجميع بتلك الفواصل من الردح والألفاظ البذيئة والمشاهد الهابطة .. وعندما تناقشت مع أحد المخرجين من معارفى قال لى ببجاحة يُحسد عليها أنه لا يختلق شيئا من عنده ولكنه ينقل للناس ما يدور فى الواقع .. يعنى سيادته يرفع لواء الواقعية وكأننا شعب من السفهاء عديمى التربية .. والمصيبة الأكبر أن الصحف تفتح لها صفحاتها وأيضا تستضيفهم البرامج الحوارية للتعبير عن آرائهم الغريبة هذه وكأن حياتنا خلت من الأسر المحترمة التى تكدح لتعيش فى احترام وتربى أبناءها على التقاليد والعادات التى تربى عليها أهلهم . أنا هنا أنادى بحذف هذه الألفاظ والمشاهد البذيئة وعدم السماح بعرضها تحت أى ظرف من الظروف بل إنذار القنوات أو المحطات التى تسمح بذلك الإسفاف وتلك الإيحاءات .. صحيح أن الحياة فيها هذا وذاك ولكن لا يمكن أن نسمح للإنحطاط أن يصل إلى بيوتنا ومن يريد أن يتعلم لغة أبناء الشوارع فعليه أن يذهب إليهم ويعيش وسطهم . كلمة أخيرة .. من قال أن الناس الذين يعيشون فى الحوارى الضيقة أو الأحياء الشعبية لا يتمتعون بالأخلاق الكريمة أو أنهم يتحدثون بتلك الطريقة التى تظهرهم بها المسلسلات الهابطة .. أبدا والله فقد خرج منها الكثير من العلماء والأدباء والعظماء على مر السنين وهذا لا ينفى أنهم كأى مجتمع يوجد فيهم جميع الأطياف وليس فقط التدنى وقلة الأدب .. بل والله أكاد أجزم أنه تغلب عليهم الشهامة والخلق الكريم . وفى المقابل ليس كل من يعيش فى الأحياء الراقية أو من هم من المتيسرين ماديا لابد من أن يكونوا متحررين من أى قيد أخلاقى ودائما ما يظهرون فى ملابس فاضحة ويجلسون فى المكاتب الفارهة أو حول حمامات السباحة يعقدون الصفقات المشبوهة أو يعطون الأوامر للمشبوهين ممن يعملون لديهم للفتك بخصومهم . لقد سئم الناس كل هذه الأنماط وكأن المجتمعات خلت من البشر الأسوياء مما يجعلنا نكتفى بهذا القدر فى موضوع الرقابة على الإبداع .. وندعو إلى إعمال الضمير .. يعنى الرقابة الذاتية . وإلى موضوع جديد ولقاء قادم بحول الله . بقلم : د . مصطفى عابدين شمس الدين