14 سبتمبر 2025
تسجيللأمر ما وصف النبي عليه الصلاة والسلام بعض نعم الله على خلقه، فقال في عد هذه النعم: «أَرْبَعٌ مَنْ أُعْطِيَهُنَّ فَقَدْ أُعْطِيَ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: قَلْبًا شَاكِرًا، وَلِسَانًا ذَاكِرًا، وَبَدَنًا عَلَى الْبَلَاءِ صَابِرًا، وَزَوْجَةً لَا تَبْغِيهِ حُوبًا فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ» " ، ومعنى البلاء: التكاليف التى يختبر الإنسان بها، ، فالحذر من الذين سقطت همتهم وبردت عاطفتهم وفرضوا موات أنفسهم على دين قام منذ نشأته بحب المحقين - المجاهدين - وبغض المبطلين - والعاطلين- والأفراد والأمم إنما تعلو إذا قدرت على التحليق، وتهبط إذا فترت منها الهمم ، وغلب عليها الكسل، ومن قديم عرف تفاوت الهمم باختلاف الطاقات فى الإفادة من الشدائد، والكسب من الظروف الحرجة. أو كما قال "وليم بوليثو": ليس أهم شىء فى الحياة أن تستثمر مكاسبك، فإن أى أبله يسعه أن يفعل هذا، ولكن الشيء المهم حقاً في الحياة هو أن تحيل خسائرك إلى مكاسب، فهذا أمر يتطلب ذكاء وحذقاً، وفيه يكمن الفارق بين رجل كيس ورجل تافه وهذا حق، وانظر إلى هذه الأمثلة لتحويل الخسائر إلى مكاسب: عندما فقد عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما - عينيه، وعرف أنه سيقضي ما بقي من عمره مكفوف البصر، محبوسا وراء الظلمات عن رؤية الحياة والأحياء، لم ينطو على نفسه ليندب حظه العاثر. بل قبل القسمة المفروضة، ثم أخذ يضيف إليها ما يهون المصاب ويبعث على الرضا فقال: أن يأخذ الله من عيني نورهما ففي لساني وسمعي منهما نور قلبي ذكي، وعقلي غير ذي دخل وفي فمي صارم كالسيف مأثور. وقال بشار بن برد يرد على خصومه الذين نددوا بعماه: وعيرني الأعداء، والعيب فيهمو.. فليس بعار أن يقال ضرير إذا أبصر المرء المروءة والتقى.. فإن عمى العينين ليس يضير رأيت العمى أجراً ، وذخرا وعصمة.. وإني إلى تلك الثلاث فقير وصدق الله العظيم في علاه إذا يقول :" إِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ" ولا شك أن تلقى المتاعب والنوازل بهذا الروح المتفاءل، وهذه الطاقة على استئناف العيش والتغلب على صعابه، أفضل وأجدى من مشاعر الانكسار والانسحاب التي تجتاح بعض الناس وتقضي عليهم. والبلاء الأشد أن يرزق المرء عافية في جوارحه ، ولكنه يقعد بها عن بلوغ العلياء ، بينما بجانبه من يكون قد ابتلي في هذه الجوارح ، ولكنه بعيد الهمة، ولا يقعد دون القمة ، قال إبراهيم التيمي: كفى بالمرء حسرة أن يفسح الله في بصره في الدنيا وله جار أعمى، فيأتي يوم القيامة أعمى وجاره بصيراً. في الوقت الذي كان فيه ابن أم مكتوم فاقد البصر، واجد البصيرة ، ومع هذا كان يبحث عن الحق والحقيقة ، يبحث عن النور الذي بعث به صفوة الخلق وحبيب الحق - صلوات الله وسلامه عليه- ، بينما كان صناديد قريش ينأون عنه وينهون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون ، وكان المصطفى صلوات الله وسلامه عليه – حريصا على هداية علية القوم لصالح الدعوة ،؛فبإسلامهم يُسلم أتباعهم، ولكن الهدي هدي الله يتنزل الوحي المعصوم بقرآن يتلى إلى يوم القيامة برفعة شأن هذا الفاقد للبصر على هؤلاء الصناديد الصم عن الحق، العمي عن الرشاد، قال الصفدي – رحمه الله تعالى - في نَكْت الهِمْيان في نُكت العُميان " قد جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده صناديد قريش: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل ابن هشام، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الإسلام. فقال ابن أم مكتوم اقرئني وعلمني مما علمك الله. وكرر ذلك. فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع كلامه وأعرض عنه. فنزلت هذه الآيات." عَبَسَ وَتَوَلَّى *أَن جَاءهُ الْأَعْمَى*وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى*أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى*أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى*فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى*وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى*وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى*وَهُوَ يَخْشَى*فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى*كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرمه بعد ذلك ويقول إذا رآه مرحباً بمن عاتبني فيه ربي ويقول: هل لك من حاجة؟ واستخلفه على المدينة مرتين"،هذه أمثلة من القديم على أن الإعاقة لا تمنع من علو الهمة والتطلع إلى العلياء ، ومربط الفرس في الإرادات والعزائم. ومن الأمثلة الحديثة نذكر الشيخ أحمد ياسين – رحمه الله - مؤسس حركة المقاومة الإسلامية "حماس" في قطاع غزة في العام 1987 تعرض لحادث في شبابه أثناء ممارسته للرياضة، نتج عنه شلل جميع أطرافه شللاً تاماً، ومع إصابة الشيخ بالشلل التام، فإنه كان يعاني من أمراض عدة منها (فقدان البصر في العين اليمنى بعد ضربه عليها أثناء التحقيق وضعف شديد في قدرة الإبصار للعين اليسرى، التهاب مزمن بالأذن، حساسية في الرئتين، أمراض والتهابات باطنية ومعوية) لقد وهبه الله تعالى فكرا نيرا وعاطفة جياشة وألهمه عملا بصيرا، اجتمع كل ذلك في شيخ المجاهدين أحمد ياسين رحمه الله قام _ وهو القعيد _ حين قعد الناس، وقال لا للمخطّطات الصهيونيّة وأصرّ على المقاومة، وقاد الانتفاضة الأولى بالحجارة حين لم يتوفّر لأتباعه السلاح فلم يمنعه شلله من أن يكون سدّاً منيعاً أمام الهجمة الصهيونيّة سواءً المسلّحة أو المغلفة بشعارات السلام، فرفض الاستسلام وبثّ في الضفة والقطاع روح المقاومة وأوجد جيلاً من القيادات عالية الكفاءة حتّى لا تبقى الساحة الفلسطينية حكراً على دعاة التطبيع مع اليهود والتنازل عن الحقوق الثابتة، لقد استقى أفكاره من القرآن الكريم والسنّة النبوية المطهرة وتعامل معها وفق منهج الاعتدال والحيوية الّذي تشبّع به في مدرسة إمامه وشيخه حسن البنا – رحمهم الله تعالى ، وكانت عواطفه مع دينه وشعبه المشرّد المظلوم فدفعه ذلك إلى الانخراط في العمل الميداني من أجل فلسطين تحت راية الإسلام ، ولم ينكفئ على ذاته ، يأسو جراحه ، وإعاقته وزمانته ، ولكنه انطلق وهو الحبيس ، وقام وهو القعيد ، نهض وهو المقعد ، لم يثنه ما غزا بدنه من الآفات والعلل ، عن مقاومة اليهود الحاقدين ، والصهاينة الصليبيين ، فكان آيةً في فكره وعاطفته وعمله وجهاده وصبره وثباته ودعوته فأحبّه أبناء فلسطين كما أحبّه كل عربي ومسلم، وعرف اليهود أنّهم أمام نمط جديد من الرجال ،أربك الاحتلال الصهيوني وحلفاءه، سجن اليهود - وحلفاؤهم - الشيخ أكثر من مرّة وحكموا عليه بالمؤبّد و15 عاماً لكن هذا لم يزده إلاّ ثباتاً، وكتب الله له الفرج فخرج من سجون اليهود عاليّ الهمّة مصرّاً على نهجه. وقد أكرمه الله تعالى بالشهادة فجر 22 مارس 2004 إثر قيام مروحية الأباتشي الإسرائيلية بإطلاق ثلاثة صواريخ على الشيخ المقعد وهو خارج على كرسيه المتحرك من مسجد المجمّع الإسلامي بحي الصّبرة في قطاع غزة. كما استشهد في هذه العملية التي أشرف عليها رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك ارئيل شارون 7 من مرافقي الشيخ وجُرح اثنان من أبنائه ، وهكذا ختم الله له بالشهادة بعد أداء صلاة الفجر وشهود الملائكة له " إن قرآن الفجر كان مشهودا" " أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون" ثم تأتي ملائكة لتشهد احتضاره وإكرام الله تعالى له بالشهادة. هذا وبالله التوفيق وللحديث صلة بحول الله وقوته.