14 سبتمبر 2025
تسجيلحالة الغليان التي نشهدها هذه الآونة في أكثر من دولة عربية, هي أولاً وأخيراً حالة تغييرية تصب في مجرى مصلحة الجماهير العربية, وهي التي تعتبر القضية الفلسطينية, إحدى قضاياها الرئيسية، ولذلك فإن العلم الفلسطيني ارتفع في كل التظاهرات الانتفاضية العربية. هذا بالطبع ليس صدفةً، فالأمة العربية ما زالت تتبنى القضية الفلسطينية, وبالتالي, هي تعتبر إسرائيل عدواً رئيسياً لها، وخطراً على دولها تماماً مثلما هي خطر على الفلسطينيين وعلى الأرض الفلسطينية.يزيد ويعمّق من هذه النظرة: الصلف والبلطجة والتحدي الكبير الذي تمثله الدولة الصهيونية, والذي لم يبق محصوراً في إطاره الفلسطيني بالقدر الذي هو فيه يطال الأمة العربية من محيطها إلى خليجها.زد على ذلك أن فلسطين وبالمعنى الديني هي أرض مقدسة، وبيت المقدس هي قبلة العرب والمسلمين في العالمين العربي والإسلامي, وهي أيضاً محج للكثير من الطوائف المسيحية، فالأنبا شنودة منع الأقباط من الحج إلى القدس طالما بقيت تحت الاحتلال الإسرائيلي، ووفقاً لتصريحاته المتعددة:فإن الأقباط سيدخلونها مع إخوتهم العرب والمسلمين حين تحرير المدنية. يلعب دوراً فيما قلناه أيضاً: وصول التسوية بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل إلى طريق مسدود بعد أعوامٍ طويلة من المفاوضات غير المباشرة والمباشرة في معظمها، هذه المفاوضات التي أثبتت بما لا يقبل مجالاً للشك: استحالة إقامة تسوية فلسطينية أو عربية مع إسرائيل، وهي المتنكرة جملة وتفصيلاً للحقوق الوطنية الفلسطينية في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس (التي تظل عاصمة أبدية وموحدة لإسرائيل-من وجهة النظر الصهيونية)، والمتنكرة أيضاً للحقوق العربية فالجولان تعتبرها إسرائيل (أرضاً إسرائيلية), وهي لا تزال تحتل مزارع شبعا اللبنانية، وهي التي قصفت أهدافاً عربية في لبنان وسوريا ومصر وتونس(عندما اغتالت القائد الفلسطيني خليل الوزير), وهي لا تعتبر أن هدفاً عربياً محرّم عليها.لقد حاول النظام المصري إبّان مرحلتي الرئيسين: السادات ومبارك بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد، إنجاح العلاقات التطبيعية بين البلدين, كما حاولت إسرائيل ذلك، لكن هذا الأمر التطبيعي لم ينجح مطلقاً، وهو ما يؤشر إلى أن وجهة النظر الشعبية العربية وبالرغم من اتفاقيات كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة، تتمثل في رؤية إسرائيل كدولة عدوة للجماهير العربية, وجسم غريب في المنطقة. إسرائيل رفضت أيضاً ما يسمى بـ (مبادرة السلام العربية), معتبرة أن السلام يتوجب أن يجري مقابل السلام وليس مقابل الأرض، وليس مقابل الاعتراف بالحقوق الوطنية الفلسطينية والأخرى العربية، هي تريد تطبيع العلاقات مع الدول العربية مجاناً ودون دفع أية أثمان مقابل ذلك. من ناحية ثانية، فإن الوضع الإقليمي لا يدور في المصلحة الإسرائيلية، فاللاعبان الجديدان في المنطقة:إيران وتركيا:الأولى لا تعترف بوجود الدولة الإسرائيلية، والثانية تمتلك علاقات متوترة مع إسرائيل, بسبب العديد من الخطوات العدوانية التصعيدية الصهيونية على حلقات هذه العلاقة(العدوان على السفينة مرمرة، حادثة دافوس، إذلال السفير التركي، عدم الاعتذار لتركيا وغيرها)، العلاقة مع تركيا ذاهبة باتجاه التردي بعد أن كانت الدولة الحليفة الاستراتيجية لإسرائيل. من جانب آخر، فإن المقاومة الوطنية اللبنانية التي أجبرت إسرائيل على الخروج من الجنوب اللبناني في عام 2000, والتي تمكنت من إفشال الغزو الصهيوني على الأراضي اللبنانية في عام 2006(بل الأدق هزمت إسرائيل باعتراف الكثيرين من الإسرائيليين بعد الضجة التي أُثيرت في الكيان الصهيوني بعد وقف إطلاق النار)، هذه المقاومة وصلت إلى نوع جديد من التحدي في شكله ومضمونه, بإعلان زعيم المقاومة في خطابه الأخير بأن أي عدوان صهيوني جديد على الأراضي اللبنانية, سيواجه بمحاولة سيطرة من قبل المقاومة على أراضي الجليل، هذا التحدي رَفَعَ من حالة تحدي مجابهة العدو الصهيوني في عموم المنطقة العربية. من زاوية أخرى:فإن الفرصة التي سنحت لإسرائيل في الأربعة عقود الأخيرة:إن بتوقيع اتفاقيات ما يسمى بالسلام, أو افتتاح ممثليات وسفارات لها في العديد من الدول العربية، ووجود وبروز ما يسمى بـ (مبادرة السلام العربية)، هذه الفرصة لن تسنح لها مرّة أخرى على الصعيد المنظور. لقد امتلكت غالبية الدول العربية إمكانية الاعتراف بإسرائيل وحتى تبادل السفراء معها, فيما لو استجابت للاشتراطات التي وضعتها المبادرة.مع التغيير الانتفاضي الشعبي في أكبر دولة عربية وفي تونس وفي دول أخرى مرشحة لحصول مثل هذه التغييرات فيها، فإن الفرصة تتقلص أمام الاعتراف الرسمي العربي بها، فالجماهير العربية من المحيط إلى الخليج هي ضد إقامة أي شكل من العلاقة مع الدولة الصهيونية. العالم العربي بحاجة إلى وضع فلسطيني ووجهة نظر فلسطينية واضحة عنوانها الأساسي:التمسك بالثوابت الفلسطينية وإنهاء الانقسام (وهو المطلب الذي تركز عليه الجماهير الفلسطينية في كل مواقعها مؤخراً). جملة القول: إن لا تسوية فلسطينية مع إسرائيل على المدى المنظور، إضافة إلى انشداد في الوضع العربي لصالح إعادة الصراع مع الدولة الصهيونية إلى مربعه الأول، هذا في ظل إعادة مظهره الأساسي كصراع عربي-صهيوني وليس فلسطينياً – إسرائيلياً كما يحلو للبعض القول، هذا بالإضافة إلى رفع وتيرة التلاحم بين الخاص الوطني والعام القومي.