29 أكتوبر 2025

تسجيل

عُقدة الجزيرة عند الاحتلال والاستبداد

03 فبراير 2024

بقيت قناة الجزيرة الإعلامية، تظفر بمناسبةٍ انتظرها ولامسها العربي منذ انطلاقتها قبل أكثر من ربع قرن، والمناسبة المنتظرة، كانت وأد كل المفاهيم القديمة للإعلام الرسمي العربي، ودوره الذي كان عادياً وجديراً « بالثقة « في مدار تطبيع العقل العربي وتغييره إلى السوي المألوف، الذي يُطلق الشعارات حفاظاً على ما هو مألوف، غير أن للأمر صورته الأخرى وصوته المختلف في قناة الجزيرة القطرية التي غيرت وجه الإعلام العربي واستطاعت تثوير العقل في مواضيعها وبرامجها الأثيرة لربع قرنٍ مضى ومستمر في ردم الهوة الواسعة التي أحدثها الإعلام العربي الرسمي في كل قضاياه. في حدود التغيير الذي أحدثته الجزيرة، من خرق الضوابط والقواعد المقيدة لمعرفة الخبر والحدث وتحليله وتقديمه، كان لافتاً انحياز الجزيرة في العقد الأخير للثورات العربية وقضايا الإنسان العربي في الحرية والتنمية والديمقراطية، لكن بقي الخبر الفلسطيني في الآونة الأخيرة، وتغطية العدوان على غزة بكل مراحله السابقة، وصولاً لـ طوفان الأقصى، ومن على قناة الجزيرة التي استنفرت كل طاقتها ومراسليها وغرفة أخبارها للحدث الفلسطيني وتداعيات العدوان، ومقارنة مع وسائل إعلام عربية ودولية لمتابعتها وتغطيتها، يُعطيها فرادة وتميزا واضحا، جعلت من مشاهديها على امتداد الوطن العربي يتسمرون أمام الشاشة لمتابعة الحدث وتحليله ونقله من مراسليها وضيوفها، حتى الذين ينتقدون الجزيرة من نظرية « المؤامرة» يتابعونها، او من بعض وسائل الإعلام المُقلدة لها بطريقة أخرى وتحمل كلمات التخفف من الشهيد والشهادة ليصبح الفلسطيني « القتيل « صفةً سلبية وقعت عليه قذيفة عادلة، ولأنه استحق عقاباً أداته التهجير والتدمير لأنه اختار أن يكون حُراً . من يعيش عُقدة الجزيرة، في وسائل إعلام عربية كثيرة تناسخت بعض العناوين والبرامج، وطريقة الحضور، مع الاكتفاء بما يجب الاكتفاء به من حيث نقل الحدث أو يوميات العدوان الاسرائيلي على غزة، فشل بشكلٍ مريع بالحفاظ على لغةٍ تحنو على ضحايا العدوان ليصبح من يقاومه طريد الرواية الصهيونية « الإرهاب» في وسائل إعلام عربية تسعى للهروب من الواقع، في هذا التزوير يتوارى اسم الشهيد والمقاوم للعدوان على أرضه ويكون البديل مجموعات « المسلحين « في لغةٍ عربية فقدت دلالات كلماتها عندما وقع عليها رصاص الاستبداد وأرداها قتيلةً، هذا الانتقال المأساوي في التغطية الإعلامية العربية بمواجهة الجزيرة، يؤكد التطور المعاق لوسائل إعلامية تماهي حضور التغطية الغربية والإسرائيلية للوقائع العربية والفلسطينية، ومن دون إضافة نوعية للإجابات التي قدمتها شبكة الجزيرة طوال أكثر من ثلاثة أشهر ونصف من بدء العدوان، وربع قرنٍ من الاقتراب من الانسان العربي والقبض على أسئلته وقراءة وضعه وتاريخه. مهما كان شكل النقد الموجه لقناة الجزيرة، بسبب مقايسة خاطئة لا تميز بين النقد والهجوم، فإنها تندرج تحت سياق الهجوم على من يرعاها «دولة قطر» في اشكالية عامة ونمطية السؤال عن الدور و « الحجم» للدولة، لا عن الموروث التنويري العربي للإعلام، الذي يفتش عن الإجابات المحتملة بعيداً عن الزمن الخانق الذي حاصر فيه الإعلام الرسمي الواقع وإجاباته المحتملة، ومن دون تدقيق كبير في الفوارق الجوهرية الذي استغرقه الانبهار الرسمي بالحضور على شاشات وصحف غربية تنظر للعربي باستعلائية مريضة، استطاعت الجزيرة تبديدها بالتحرر من مراجع قديمة والانفتاح على مراجع واسعة في الميدان وفي الشوارع والبيوت العربية، وجعل من بعض مراسليها وصحفييها أيقونات إعلامية وإنسانية في العالم العربي والغربي وجعلها هدفاً مشتركاً للاحتلال والاستبداد. على ضوء كل ذلك، يبقى سؤال منافسة الجزيرة اليوم زائفاً، لأن الجوهري في الإعلام كما أظهرت تجارب عديدة خاضتها الجزيرة في التغطية الحصرية والمباشرة للعدوان على غزة وللخبر الفلسطيني، ومن قبل في تغطيتها المميزة للثورات العربية وبقية الأحداث والقضايا، أن الشفافية والموضوعية وحدهما لا يحققان تميزاً وإبداعاً دون تراكم أخلاقي وانساني، وهما عنصران مدلولهما العميق في جعل الإعلام كيانا فاعلا في مجتمعات جديدة مع سلطات متحررة من عُقدة الجزيرة المراكمة لشروط الإنسان الطليق والمتحرر.