15 سبتمبر 2025

تسجيل

مهزلة الثورة.. مفيش فايدة !

02 ديسمبر 2014

في مثل هذه الأيام من العام 2011 كنت ورفقة من زملاء صحفيين عرب وبيننا مصريون في نيويورك ضمن برنامج مخصص للصحافة المحترفة، وذهبنا مباشرة إلى موقع الإضراب الكبير في "وول ستريت"، كان المحتجون اللذين رفعوا شعارهم "احتلو وول ستريت" يعتصمون في الساحة المجاورة يقابلهم تمثال الثور الأحمر الذي يشير إلى مؤشرات صعود السوق المالي، والجميع يرفعون لافتات تعبر عن آرائهم وعن رفضهم للسياسات المتبعة هناك، وبين كل تلك اللافتات كان الأبرز واللافت هو العلم المصري مرفوعا في وسط الحديقة الكبيرة، وعند الحديث مع عدد من المعتصمين وعرفوا من بيننا الزملاء هيثم الشيخ وإيهاب حمدي وأنهما مصريان، أخذ المساكين بالتجمع حولهم وتبادل أطراف الحديث.لقد قال أحدهم إن الثورة المصرية ملهمة لنا، وكان بجواره عجوز يحمل لافتة مكتوب عليها "الحلم الأمريكي مات"، وليتني اليوم أستطيع أن أراهم لأسمع رأيهم بعد ثلاث سنوات من ذلك الإلهام، وهل لا تزال الثورة المصرية محفزا لهم، فهذا "كينيث روث" المدير العام لمنظمة هيومن رايتس ووتش، يجيب بكل حزن بقوله "إن القضاء المصري أعاد رواية التاريخ من جديد، فحكم ببراءة مبارك ونظامه، وتحميل ضحايا مجزرة رابعة مسؤولية قتل أنفسهم، متهما السيسي بأنه لم يرد محاكمة مبارك أصلا".بعد أربع سنوات إلا قليل من ثورة المصريين، عاد مبارك ونظامه المتهم بقتل المتظاهرين وهدر ثروات مصر وتشكيل أكبر عصابة مالية واقتصادية عرفتها الحضارة المصرية، عاد الجميع إلى بيوتهم وقصورهم ومزارعهم وإقطاعياتهم السياسية والاقتصادية، محمولين على أكتاف آلاف الضحايا ومغسليّن بدماء الأبرياء والضعفاء والمساكين الحالمين "بمصر الجديدة"، مصر التي كانت هي إلهام غالبية الشعوب العربية التي تشرئب رقابها إلى تعلم الحضارة الأولى ومعرفة أسرار "القانون" وأحكام العدالة المقارنة بين القوانين الوضعية، والتفاخر بمدارس الثورات منذ عهد أحمد عرابي وسعد زغلول، حتى خاب ظن الجميع في مصر الجديدة.مصر عادت قديمة، قديمة جدا، وكأنها لا تزال على زمن الفراعنة، يقتل أطفالها وشبابها لأن "الرئيس الملك" شاهد حلما مزعجا، قد يفسره سحرة القصر الجمهوري على أنه انقلاب دموي على " سي الريس" العسكري الرابع منذ ثورة يولو52 الذي يحمل صولجان الملك، ليؤسس لإرث جديد سيستمر جولات عديدة وسنين مديدة لمصر الجديدة، مصر الثورة التي ماتت وهي في غرفة عملية الولادة، وليس الرئيس السيسي وحده الذي ورث حكما جديدا، بل عاد الرئيس العتيق حسني مبارك وعشيرته السياسية والإقطاعية والأمنية جميعهم إلى ما كانوا عليه أول مرة.السؤال الذي يقفز أمامنا: لماذا إذن كل تلك السنين العجاف، ولماذا كانت كل تلك المسرحيات والروايات البوليسية والمناورات العسكرية داخل شوارع القاهرة والمدن الكبرى طيلة ذلك الوقت، ولماذا قتل كل أولئك الأبرياء، ومن قتلهم،ولماذا يتحمل صغار العسكر المغرر بهم خطايا سيحاسبون عليها أمام الله، لماذا كل تلك المليارات التي ضخت في جيوب السلطة لمواجهة مرحلة التغيير،من أموال المصريين ومن خزائن الأشقاء، ألم يتعب أولئك الرهط من حالة التردي والتهاوي الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والقانوني في مصر الأنموذج الذي فشل في أول مرحلة من مراحل علاجه من مرضه المزمن؟!بالنسبة لنا، خصوصا بعد الإطاحة بالرئيس محمد مرسي كان واضحا إلى أين تتجه النهايات، ولكن من المعيب والمخجل للعرب جميعهم أن يتم التضحية بعشرات الآلاف من الضحايا، والتضحية بالتاريخ الناصع للقضاء المصري وسمعته، وسمعة الإعلام الحرّ من غير دجاج التلفزة والصحف في مزارع السلطة، والتضحية بالديمقراطية والمدرسة السياسية العريقة في سبيل إعادة إنتاج نظام هَرِم وزعماء منتهي الصلاحية، ونظريات سياسية تحكمها الجيوش التي تحولت إلى استثمارات.. أليس في التسعين مليون مصري، مائة رجل يمكن أن يكونوا قادة جددا بدل كل تلك "الجنازات" المحنطة على كراسيها نصف قرن!اليوم يعود النظام العربي الجمهوري المخلوق من الرحم العسكري أو الحزبي الشوفيني ليثبت لنا أن الخلاص مستحيل، ليس لقدرته على التماهي والتحول والتلون كالحرباء أمام التحديات التي تواجهه فحسب، بل بتلك القدرة الرهيبة التي يمتلكها للسيطرة على عقول الملايين من البسطاء والأغبياء وأيضا الوطنيين ليجعلهم نياما أمام حقوقهم السياسية والاجتماعية والقانونية، فلا نهاية لحالة السيطرة الإقطاعية الأمنية في مصر، ولا لحالة القتل والدمار في سوريا، ولا التطهير الطائفي في العراق، ولا التخلف الوطني في اليمن، ولا داحس وغبرائه في ليبيا، وحدها تونس التي نجت من الدم ولا تزال في دائرة الخطر الأمني والاقتصادي، فهل يدعمها الأشقاء لتبقى مثالا جميلا للخلاص؟!