11 سبتمبر 2025
تسجيلكتاب يجمع بين دفتيه مقالات المفكّر الفلسطيني الأخيرة، والتي تركّزت بشكل أخص حول القضية الفلسطينية والصراع الفلسطيني -الإسرائيلي، إضافة إلى قضايا عامة تخص الشأن العربي والإسلامي، وينتهي برسائل الود والتقدير التي كُتبت بأقلام أعلام المثقفين في رثائه، بعد وفاته بسرطان الدم رحمه الله. لم يكفّ المفكر - وهو يحظى بالمواطنة الأمريكية - أن يسوم الإدارة الأمريكية نقداً لاذعاً يفضح ازدواجية معاييرها وسياسة الكيل بمكيالين لا سيما فيما يتعلق بقضايا الشرق الأوسط، كفلسطين والعراق، الأمر الذي عرّضه لمضايقات شتّى طالته بتأثير من اللوبي الصهيوني المتنفّذ في مرافق الولايات المفصلية! وهو رغم هذا لم يكن ليغض الطرف عمّا يجري فوق أرضه من سياسات فاشلة تبنتها السلطة الفلسطينية، وبالأخص في عملية سير المفاوضات بين الطرفين. تأتي أهمية هذه النصوص عن توثيقها لحقبة تاريخية شهد المفكّر على مجرياتها ووقائعها والكثير من أحداثها، تناولها بالدراسة والتحليل، ورسخّت لديه حصيلة متينة من المبادئ والأفكار والآراء والقناعات ما جعلها بمثابة عصارة فكر وجهاد وعقيدة. إنه إدوارد وديع سعيد (1935: 2003)، المولود في مدينة القدس الفلسطينية والمتوفى في مدينة نيويورك الأمريكية، أحد أشهر المفكّرين والمثقّفين والأدباء العرب في القرن العشرين، وأكثرهم تأثيراً في الدفاع عن حقوق الإنسان الفلسطيني وقضيته العالمية. وهو كذلك أكاديمي حاصل على درجة الدكتوراة في النقد الأدبي والأدب المقارن من جامعة هارفارد الأمريكية، حيث انخرط في سلك التدريس الجامعي، وشغل بالإضافة إليه مناصب أخرى كمحرر وكاتب عمود في عدد من الصحف العربية والعالمية، كما كان نشطاً إعلامياً من خلال الندوات والمحاضرات والحوارات الإذاعية والتلفزيونية.ينقسم كتاب (خيانة المثقفين: النصوص الأخيرة) إلى عدة أقسام، تبدأ بـ (السيرة والأعمال)، ثم تتطرق إلى مواضيع مثل (الاستشراق/ الإسلام/ القضية الفلسطينية/ حول مفهوم المثقف)، وتنتهي برثائه. وعن مراجعته، فتعتمد على الطبعة الثالثة الصادرة منه عام 2011 عن (دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع) والذي عني بترجمته من لغته الأصلية المترجم التونسي أسعد الحسين، وهي تشتمل على بعض الاقتباسات بما يخدم النص. تحتل مقالة (خيانة المثقفين) عنوان الكتاب، والذي ألحق فيه المفكّر العار بزمرة من المرتزقة وأصحاب الأقلام المأجورة الذين تكفّلوا بشنّ هجمات تستهدف الحطّ من قيمة الإسلام ووصمه بالتعصب والجهل والتخلف والظلامية، وذلك عندما كان يتصدى لأجندات السياسة الغربية وحملتها الشرسة للنيل من الإسلام وأتباعه! بيد أن دور هؤلاء المثقفين من الخطورة بمكان في التأثير على عقول العامة وتثقيفهم وتشكيل وعيهم الجمعي، لا سيما فيما لو قاموا بالتحريض على معاداة الحق والتصفيق للظالم، الأمر الذي سيؤدي لا محالة إلى سيادة الطغيان وتفشّي العدوان وتغييب العقل وضياع الحق. أما عن حركة الاستشراق التاريخية كمفهوم وكهدف، فهي إن خدمت ابتداءً الأهداف الاستعمارية أو الاستكشافية أو التبشيرية، فإنها تأخذ على عاتقها في الوقت الحاضر خدمة المصالح الإسرائيلية-الأمريكية، ودعم الخطط الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية، وهي بهذا لا تحقق أي نوع من الموضوعية أو الحيادية لا على مستوى الفكر ولا التحليل ولا الحوار البنّاء بين الطرفين المتنازعين. وللقضية الفلسطينية نصيب الأسد من نصوص المفكّر الأخيرة وكأنه يوصي بها بعد أن قال كلمته وكفّى ووفّى، وهو ما برح ينادي بأن الخيار المتاح للحل السلمي وحقن الدماء هو إقامة دولة واحدة ثنائية القومية، تتعايش فيها القوميات الثلاثة، مسلمين ومسيحيين ويهودا. وهو في دعوته هذه لم يكن يغفل عن تسليط الضوء على الأعمال الوحشية التي كان يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني الأعزل، يساندها في هذا الكثير من دول العالم ذات المصالح المشتركة وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وأدوات الإعلام الأمريكي بقضّه وقضيضه، وشريعة (خيانة المثقفين) الآنفة الذكر. يقول صديقه الأستاذ والفيلسوف والناقد والسياسي الأمريكي (نعوم تشومسكي) في نعيه الذي جاء تحت عنوان (صوت من لا صوت لهم): «كان لي إدوارد سعيد صديقاً حميماً وعزيزاً خلال سنوات عديدة. إن موته خسارة فادحة تتعدى بكثير دوائر الذين كان لهم امتياز معرفته. لقد اشتهر عن جدارة لمساهماته اللامعة في إنتاج ثقافي غيّر عملياً من طرائق رؤيتنا للعالم الحديث ولأصوله التاريخية. ناضل بلا كلل ولا هوادة من أجل العدالة والحرية وحقوق الإنسان ليس للشعب الفلسطيني وحده - وهو الذي لا يضاهي في النطق باسمه، محيياً آماله وقضيته في أزمنة مظلمة فاجعة - وإنما أيضاً للعديد غيره من الشعوب المحرومة والمعذبة في أرجاء العالم كافة. كان إدوارد سعيد حقاً صوت من لا صوت لهم، تتخطى شجاعته والتزامه كل حدود بشكل يستعصي على الوصف. إني لواثق من أن ميراثه سوف يكون مصدر إلهام وتوجيه لسنوات عديدة في المستقبل. وخير تكريم لهذا الشخص الرائع أن نسعى بأفضل ما نستطيع إلى مواصلة التقدم في الدروب التي فتحها ومهدها بكامل تألقه ونزاهته». ختاماً، إنه كتاب لا ينم وحسب عن موسوعية الفكر وموضوعية الطرح والتحليل، بل عن شرف الانتماء والإباء والأصالة والكرامة العربية كما ينبغي أن تكون.