13 سبتمبر 2025

تسجيل

وطن أكبر من الفساد

02 نوفمبر 2016

googletag.display('div-gpt-ad-794208208682177705-3'); googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1462884583408-0'); }); الوطن ليس طريقاً، ولا ماء، ولا كهرباء، ولا كل ما تحصيه الخطابات الرسمية من أدوات تسبق الإنسان. والذين اُستشهدوا منذ البدء في سبيل الوطن أحبّوه قبل الطريق، وقبل الماء والنور، أحبّوه حراً قبل كل شيء، لأن حريته -بالنسبة إليهم- كانت كل شيء. هي الطريق، هي النور، الارتواء ومجد الكرامة.لم يثوروا لانعدام الخدمات، وإنما ثاروا ضد الاستبداد من أجل الحرية، العدالة، المساواة، من أجل نظام عادل ، من أجل وطن كالحلم يتقاسمه أبناؤه حباً ورخاء.التاريخ صيرورة، سير مظفر نحو الأمام، وكل توجه استبدادي يحاول إيقاف الزمن لا يستطيع النظر أبداً إلى الأمام، لأنه إذ ذاك يفقد صورته، ولا يرى إلا ضياعه، ولذا تجده يتشبث مفتوناً بسكونيته وواقعه الراكد، وينظر إلى الوراء، هناك حيث يمكنه التحقق من وجوده، وتلمس إضافاته الفارقة، من خلال مقارنات لا تؤكد غير اقتران الماضي المستبد بالحاضر الأكثر استبداداً.كان الماضي ينكر الحاضر، ينكر الصيرورة، ومنطق التغيير، يتشبث بمكانه من واقعه الميت، وكانت الثورة جسر الخلاص، والحاضر اليوم -فيما نرى- واقعاً وتوجهاً ومنطقاً ليس إلا تكراراً لذلك الماضي الذي لا يريد أن يبرح! حتى لو حقق الإمام ما حققتموه ما كان آباؤنا "ليعبدوه" لأنهم لم يطلبوا ما ترونه وإنما طلبوا ما هو أسمى من كل ذلك، ولو كانت الثورات وحركات التغيير من أجل الطريق، والماء، والكهرباء، لكان التاريخ مزحة.إن الإساءة ليست ما يكتبه الصحفيون، لكنها ما يحدث بالفعل، نحن لا نتسلى كمترفين بالصيد في أرض الأحزان، لا نتقصد الأسى، لا نسعد بنبش الجراحات، وتقليب الأوجاع، أو ملاحقة البؤس، لا نروج لفضيلتنا الدفينة بطعن الفضيحة، والتشهير بالخطيئة، لا نزكي أنفسنا بإحصاء أوزار الفساد، ولا نتسول الشهرة من عِرض فساد شهير.نحن لا نتقصد الألم والإساءة إنما ندافع عن أنفسنا، عن حياتنا، عن وجودنا المهدد، في واقع مطوق بالأكاذيب.. لا نحقد على أحد، إنما نحقد على الحقد، ونكره الكراهية، لأن الكراهية عقم، وحين تكون صفة حكم تغدو بمثابة جريمة.. نحن ندافع عن بقايانا ضد هذا الانتهاك المحمي المحصن بالقوة، ندافع عن حرياتنا في هذا الأفق المختنق بالقهر، والقمع، والفقر والعنف ، حيث يحيا المرء مشدوداً كقوس بين الغدو والرواح، في حالة استنفار قصوى دائمة، يعاني ألف عسر وعسر، في العقل، والقلب، والمعدة، حيث الحياة رهان يومي على الخسران، وطول البكاء، شد وجه، شد قامة، شد روح، وادّعاء مرهق للتماسك على شفير الهاوية، كفاح قاس لخنق انهيارات الداخل، كدح من أجل الأدنى والأقل، وعراك مهين من أجل التافه والحقير، وجلد يمتحن فيك الحيوان.في هذا الواقع المحكوم بالفوضى حيث لا يمكنك العيش إلا كمحارب أشباح، متوثباً للطعن، جاهزاً للمنازلة، تغدو وتروح في دورة قديمة تتآكلك حتى النخاع! نحن ندافع عن أحلامنا، في وطن يراد تحويله إلى مجرد ندم، وكوابيس مرعبة، إذ لا أحد يدافع عنّا، وعن وجودنا المهدد، وذلك ما لا تقوله الخطابات عالية المستوى، والتي لا تشير إلينا إلا كجاحدين وأصحاب ضلالة!ليحاول كل منكم تخوين ذاكرته الحاقدة، المعطوبة.. ليحاول كل منكم التفتيش عن موقف رسمي مدافع عنكم، عن خطاب يذرف الدمع عليكم، يأسى لمعاناتكم، يعترف بآلامكم، ينتصر للحقائق الصادمة، التي لا يمكن أن تطمرها الأكاذيب، ليبحث كل منكم عن خطاب عزاء، يُشعر المرء أن الوطن أكبر من الفساد الحاكم ما لا نسمعه من الخطابات الرسمية هو "نحن"، "أنتم"، وما لا نراه، هو "نحن"، "أنتم"، ما يسقط أبداً من الخطابات الرسمية المتعالية هو نحن بسطاء هذي البلاد، ما ينقص الخطابات الرسمية الدفاع عن الشعب، عن الوطن، كما يراه الشعب، لا كما تراه تلك الخطابات!كان (ديجول) كثيراً ما يردد أن كل دولة لا تبني أساس شرعيتها على الدفاع عن الأمة فإن مصيرها إلى الزوال.أنا واحد من المتضررين من تلك الخطابات، التي لا تزيد على أن تهددنا، وتتوعدنا، وترمينا بكل نقيصة، تتهمنا بالحقد على الوطن، دون أن ندري أي وطن تقصد، وما هو؟ إن لم يكن كينونة، امتلاء، حياة متجددة، مملوءة بالشغف والرغبة، مفعمة بالحرية والكرامة، رحابة، انطلاق، فرص بقاء، لا تبخس الناس أعمارهم، وأقدراهم، خطابات متوعّدة تتهمنا بالنيل من الوطن، بالإساءة للوطن، في حين لا ترى لنا حقاً يوجب الالتفات، ولا تجد لدينا من المبكيات ما يشفع لنا الصراحة في الغضب، والصدق في القول .نحن مواطنو الواجبات -لا مواطنو الحقوق- الخطابات الرسمية لا تدافع عنّا نحن المدفوعين إلى الهامش، لا تنحاز إلينا على الإطلاق، ولا تدافع إلا عن القتلة والمجرمين إلى حد القفز على كل يقين عام.كم من خطاب سمعناه ملوحاً بملفات فساد هنا أو هناك، مما تشير إليه الصحافة.. كم من قضية عادلة تهم مواطنا ًبسيطاً احتلت ولو هامشاً بسيطاً من تلك الخطابات (على كثرتها)..؟ كم من خطاب طمأن أماً مفجوعة بابن لها مضيّع أو قتيل، كم من خطاب مزبد وجّه للتحقيق في جرائم فاضحة، ومحاسبة رموز متورطين.. كم من اسم بسيط لمواطن متظلم، قفز من تلك الخطابات، حتى ولو ادعاء للبساطة والتواضع.. لاشيء يهم غير الدفاع عن الطبقة ورموز الحكم، عن السياسة وحكمة التوجه، وحنكة الإدارة، ونفاذ الرؤية، وإبهار المنجز!.. لا شيء يهم غير الدفاع عن الوضع المعطوب حتى وإن بلغ اليقين بوصوله الحضيض .لا مكان للاحتفاء بالإنسان كروح وأشواق، لا مكان لأحد في الأجندة الرسمية! لا مكان إلا....ليس مسلياً احتشادنا في مواجهة هذه البشاعة اليومية.. ليست ترفاً نقمتنا حتى على أنفسنا، لم نأت من أجل النقمة، بل جئنا لنحيا ولنسعد بالحياة، ولندافع عن حيواتنا ضد كل قطاع الطرق واللصوص، ضد كل انتهاك يبدأ بسلب الحرية وينتهي بسرقة اللقمة! لنا ما نحبّ ويستحق الدفاع، لنا أحلام مؤجّلة، وحقوق معلّقة، لنا وطن يستحقنا ونستحقه.