16 سبتمبر 2025
تسجيلأعلم أنك تقرأ مقالتي هذا اليوم فتستغرب، ولكنك بلا شك قد عزمت النية على تأجيل قراءتها إلى أن تكون في صحبة مع كوب قهوتك، نديمك عندما لا يكون لديك نديم ... ورفيق دربك الذي لا ينفك عنك سواء كنت في طائرة أو على جمل، في مقهى، على أريكة أو على الماشي في كوب محمول، لا يغادرك إلا وأنت مرتفع الهمة مزهوا مستبشرا بغد أفضل وكوب قهوة آخر مجددا سيكون أطيب. نعم أنا معك ..... أجّل قراءته إلى أن يحين موعد قهوتك، أو اطلبها الآن بسرعة..... فلكوب القهوة كل يوم مذاق جديد وفن وقصة وحياة، لا تختلف باختلاف وقت وزمان ومكان ارتشافها فحسب بل وبمهارة من يصنعها، نعم "من يصنعها" وحتماّ من يكون في فنجانها دوما في كل مرّة نشربها.لطالما كانت القهوة المسؤولة عن الوعي والنشاط، ولطالما كانت الملامة في السهر والأرق بمفعول سحري أو آسر أيقظ غنيمات العرب في القرن السادس عشر قبل إيقاظها للبشر، حيث كانت في اليمن وفيما حاذاها من مناطق أبسينيا في قارة أفريقيا، فيما يُعرف اليوم بأثيوبيا، عندما فطن لحبيباتها الراعي صدفة بعد إدراكه لأثر مفعولها ودبيب نشاطها على الماشية........ الماشية تلك "الغنيمات" المنتشية، المحظوظة والمظلومة في حقوق الملكية الخاصة والمتفردة بهذا الاكتشاف الفريد الذي سرق منها، وهي لا تدري ما المحاورة وما الحقوق لتشتكي "بزنس" لم تصله لا هي ولا حتى راعيها.وتعجب العرب جلّهم وغدا للقهوة لديهم تاريخ فريد لم يمجد مفعول القهوة ليحتسيها منتعشا فحسب، بل حمل وحمل الناس وزرها "خمرا"، حيث تعرف القهوة في أحد معانيها في معجم اللغة العربية بـ: "الخمرة"، فجاء تحريم القهوة لدى العرب الذين ما فتئوا يحملون المعاني وزر الارتباط الدلالي في اللغة العربية.فشُطح بها إلى علماء الدين فدخلت القهوة "ثورة" مثلها مثل غيرها من بعض الثورات التي تتصارع فقط على "مفاهيم" عائمة لا بين العلماء فحسب، بل بين المتفيهقين و "الرويبضات" والعامة" و"الغوغاء".أعود للقهوة، فقد تناقلها العلماء بين إباحة وتحريم، بل وأصدرت فيها فتاوى، إذ اختلط مفهومها لديهم بالخمرة كما أسلفت إسقاطا لمفعولها السحري على معناها اللغوي في المعاجم العربية، وأشبعت مسيرة تاريخية ثورية حاشدة بين الجزيرة العربية وحتى مكة المكرمة والمدينة المنورة، اليمن، مصر ودولة الخلافة الإسلامية، والسبب هو انتشاء غنيماتٍ بحبيباتِ بنٍّ، مخافة امتداد مفعولها إلى البشر مظنّة السُّكر. حيث إنها – وفقا لما ورد في التاريخ – حرّمت في عهد آخر سلاطين المماليك (قنصوه الغوري) من قبل من تولى إمارة مكة آنذاك (خاير بك)، حيث شاهد حشدا من الأهالي وجموعا غفيرة من الناس يشربون القهوة بالقرب من المسجد الحرام فاجتمع بالفقهاء وأمرهم بإصدار فتوى بتحريمها، فقالوا له: هي نبات وحكمها يجري حكم النباتات، ولكن الفتوى ستكون بتحريم شربها على المقاهي! مظنة التجمع واللهو (ربما). ولكنه لم يكتف بذلك، بل اجتمع مع الأطباء فأصدروا له بيانات تؤكد أنها "مفسدة للبدن المعتدل"، فأذاع في طرقات مكة المكرمة والمدينة المنورة معاقبة شاربها، وقام بإصدار أمر مباشر بحرق محلات البن في كافة مخازن التجار. وهنا أقف عند رائحة البن المحمّص المغرية، وبالتالي عند الأطباء الذين أقسم أنني أريد - حتى هذه اللحظة - أن أقع على بحوثهم العلمية المصدقة لأقف حقّا وأحاسبهم، لا على سبب الحرمان، بل على "تهافت الأطباء" ليقيني المسبق أن الطبّ لا يقع في مظنة "التسييس". وأتمنى أن يصدق يقيني. لن أشطح .... ولنكمل القصة..... سأعود بكم إلى عهد المماليك وأدخل القاهرة وقتها، حيث لم يكن شرب القهوة محرما ، فبعث السلطان (قنصوه الغوري) لـ (خاير بك) يأمره بالرجوع عن تحريم شربها، بعد أحداث الشغب التي شهدتها شوارع المدينة المنورة في عام 1524 م من قبل الرافضين لتحريم شربها . ولكن يبدو أن مفعول أقصد "سحر" القهوة أعنف من أن يؤتمر خاير بك بأمر قنصوه الغوري، حيث مسّت عدوى التحريم القاهرة، فانبرى لمهاجمتها فقيهٌ متشدد من على المنابر، وهو ما دفع جمهوره الواعظ مباشرة للخروج لتحطيم المقاهي لتعيش القاهرة بعد المدينة المنورة ثورة مضادة، أعني حالات شغب وفوضى من أجل القهوة، أقصد بسبب فتوى بتحريم "قهوة" لم يحرمها الله. فانتعش المفتون والكتاب ليشبعوها تحريما في مخطوطاتهم فجاؤوا بكتاب على شاكلة "السهوة في تحريم القهوة" وهم من قالوا فيها: "إن شاربها يحشر يوم القيامة ووجهه أسود من قعور أوانيها". هذا وطاشت القهوة في سحرها وثورتي يقينها أو حتى شكّها ورفضها لتمتد العدوى السياسية والفقهية والطبية على القهوة إلى العصر العثماني، حيث أصدرت السلطات أوامر بتعقّب شاربيها لحرمتها الشرعيّة، أي تجريم شاربيها، هذا وربما لو انتشر مصطلح الإرهاب لديهم كما هو منتشر اليوم لنعت به "شاربوها" وقتذاك. ولكن منّ الله على الأمّة بعقول مفكّرة صنفت بذرة القهوة المظلومة بالبراهين، فأصدرت ما يقنع العقول مما جاء في باب (إقامة البرهان في جواز شرب القهوة والغليان)، فشاء الله أن يأتي الفرج على عهد (السلطان العثماني مُراد) وعلى يد مفتٍ ايضا قام بتعيينه والذي – وأخيرا وفق بحثه - أطلق عنان "القهوة" المتهمة البريئة التي لم تثبت إدانتها، فأصدر فتوى بعدم حرمة شربها لتتمتع الدولة الإسلامية ونتمتع جميعا بشربة هنيئة مريئة أعادت استتباب الأمن وحقنت الدماء لنحمد الله على أنهم أقاموا البرهان، وإلا لبقينا تحت رحمة الأساطير التي أسكرت "غنم الرعيان" في اليمن وإثيوبيا"، هذا رغم قناعة مفعول سُكْرها العكسي بخمرة القهوة المنشطة، عكس تلك الخمرة المحرمة المقصودة لغة وشرعا، والتي تغيّب العقل. رغم الثورة التي كان بالإمكان تفاديها ودرء نشوئها واستنزاف الجهود وتجريم الأنفس فيها من قبل الساسة، يعطينا التاريخ درسا في الثورة الناضجة القائمة على العلم والمعرفة والإقناع والحجة دون جهل أوغوغائية أو فوضى حتى لو كان السبب "قهوةً" وحتى لو كان المسرح "مسيّساً"هذا وليس للقهوة في كل بلد قصة خاصة بها بل لكل فنجان حكايته، إذ ألهمت القهوة شعراء وأدباء، وغدا البنُّ إما حديثَ ثورة أو موت أو حياة او حديث حبّ أو حتى ذكرى انقسام أو وداع وفراق.المهم .....بعد كل ذلك النشاط الذي دبّ فيكم حتما، آمل ألاّ يأتيني أحدكم بورقة لأوقعها وأنا تحت تأثير القهوة ........." بأبي أنتَ وأمّي، اسقنيها، لا لتجلو الهمَّ عنّي .................".