13 سبتمبر 2025
تسجيلكان الأخ الأكبر من ضمن ستة إخوة وأخت وحيدة، كل ما يذكره هو مجلد من الذكريات الملتصقة كعلكة تارزة لا يكاد الماء الحار يُذيب بعضاً منها، لا ينسى علبة الكبريت التي أحرق بها ستارة الصالة قبيل تأثيثها، وقع ذلك في بدايات الثمانينات ليصادف الحدث ذكرى مولده الذي وقع هو الآخر في يوم رملي عاصف غطى أرجاء الدوحة بمجرد ولادة عبد الرحمن . عبد الرحمن أول فرحة لوالديه وأول حزن له بمجرد وجوده في الحياة فقد سقط رأسه بصرخة مدوية من فم صغير، نمى جسده بفعل ترسبات السنين وأخطاء مغفور لها ونزوات غير مقصودة تسببت تلك النزوات بولادة عدد من الرؤوس الصغيرة من بعده، مما ترك والده يضمحل جسده ويزداد بياض شعر رأسه من شدة التفكير في كيفية الإنفاق على ذلك الفريق الذي خُلق دون أن يصبح لديه ملعب! * يالله اركبوا بسرعة! وين أمكم؟ انضم عبد الرحمن إلى صندوق صغير مليء بالأطفال ذوي أحجام متفاوتة الطول والعرض والعمر، ذلك الصندوق البني هو سيارة والده، لم يكن أحد منهم يستطع التمتع بالمناظر الخارجية القاحلة من السيارة، لتعمد والدهم تغطية زجاج السيارة بالجرائد خشية أن تُصيبهم هامة وعين لامة، يتمتم بعبارات شاجبة لتأخر والدتهم عند تبديل ملابسها ... ويوجه اللعنات على الحياة التي عاقبته بتذييل اسمه بعد أسماء أولاده ... العتب والشتم لأن طرف ثوبه متسخ بلون أسود غريب ... الصراخ وتقوّس حاجبيه لأن زوجته رفعت غطاء وجهها عند ارتشافها " شاي كرك " وزجاج السيارة الأمامي منسدل ... لقد اعتادوا الذهاب في رحلة عائلية أسبوعياً عند كافيتريا صغيرة جداً قريبة من منزلهم تكفي لجرسون واحد وطاولة بلاستيكية مربعة، لتبدأ الطلبات وتعلو سقف الصندوق البني: " يبه أبي كرك ... أبي آيس كريم أبيض ووردي ... أبي ساندويش بيض مفيوح مع جبنة...... " فيقوم في نهاية الأمر بتوزيع الطلبات على تلك الأجساد الضئيلة بتحلطم نتيجة الإزعاج الذي كاد أن يُفجّر طبلة أذنيه .. كصوت وتر عود غريب تمر السنين لتتغير أرجاء الأجساد وأطرافها ومضمونها، فكبر من كبر وكانت الرؤوس الصغيرة قد تبدلت في أحجامها وطريقة تفكيرها، ومن بينهم عبد الرحمن الذي كانت والدته تعاني منذ صغره من عدم قدرته على مسك القلم، وخطه المعرّض للسخرية لتشابهه الكبير بالخط الهيروغليفي وعدم قدرته على ترتيب سريره الصغير الكامن في غرفة تحوي جميع إخوته . كان صوت العود يعزف وتر الذكرى في رأسه الصغير إلى أن كبر ... تناسى قلمه ... وخطه الغبي ... وسريره العميق من شدة القفز عليه ... وغرفته التي هي أشبه بسجن جماعي .... تدور الكرة الأرضية سواء بسير أرجلنا عليها أو دفن أجسادنا تحت رمالها ... وتدور الكرة تحت أرجل عبد الرحمن تباعاً : * متى بتتزوج يا وليدي ؟ أبي أشيل عيالك قبل ما أموت ! يجلسان في صالة المنزل عبد الرحمن ووالدته وأمامهما كوبان من الشاي الأحمر وصورة والده المتصلبة على طاولة الصالة، صوت ارتشاف عبد الرحمن هادئة وهو صامت، لا يذكر هو كم من السنيين قد صمت، ولا يذكر متى هي آخر مرة سمع صوته فيها! ولكنه يذكر أن هذه الجلسة قد تكررت منذ سنوات طوال حينما كانوا يتجمعون مع والديهم ويتلاعبون بحبات السُكّر ويرتشفون الشاي من الصحن الزجاجي الصغير الذي يركن عليه الكوب ! يمر الوقت سريعاً وتجري عقارب الساعة ... ليعيش عبد الرحمن وسط شاشة صغيرة ... في قطعة معدنية مصقولة! يكمل بها صمته الأبدي ... فتنعكس أشعة الشاشة على وجهه .. ويقرأ ما يكتب الآخرون ولكن دون حبّات سُكّر !