13 سبتمبر 2025
تسجيللا أعرف حقيقةً كيف أبدأ؟ فقد أصبحت أخجل من أن أكتب عما يحيط بنا كأيادي الأخطبوط؛ من فنٍ في وسائل الاتصالات خوفاً من أن أُنعت بالتخلف ورفضِ كل مواكبةٍ للتطور والاستفادة منه. لقد أصبحت أجهزة التواصل والتحدث كثيرة وكأن العالم كله قد أصبح في قبضة اليد، كل ذلك حدث سريعاً وجرفنا معه دون أن نفكر أحياناً إن كنا في حاجةً أو لا إلى ما نبحث عنه طوال اليوم في هواتفنا، وما يشغلنا عن العالم كله.. عندما كنت صغيرة في بداية المرحلة الابتدائية، وفي الصف الثالث بالتحديد اقتربت مني صديقتي وهي خائفة لتخبرني بسرٍ خطير، وهمست في إذني: ((أتصدقين أنه في المستقبل سيصنعون هواتف يستطيع الناس خلالها أن يروا بعضهم وهم يتحدثون في نفس الوقت))، ففتحت عيني على سعتها ببراءة واستغراب شديد، ورددت عليها همساً أيضا: ((عندئذ سيكون قد جاء يوم القيامة، وسوف نموت ويموت الناسُ جميعاً)). ومر الزمن سريعاً وأتت كل أنواع الهواتف، وطرق التواصل التي لا تخطر على بال، وقامت قيامة، ولكن من نوع آخر. وأنا شخصياً أقف احتراماً وإعجاباً لمن استطاع باختراعاته أن يختصر العالم بهذه الطريقة، ويجعله أصغر مما نتصور.. أرى الناس مشغولين جداً، لا تكاد تخلو أي يد من جهاز هاتف متطور، الذي غزا حياتنا ليقرب من يقرب، ويبعد بقوة من يبعد، اقتربنا كثيراً من بعضنا البعض، وقد يكون اقترابنا هذا أكثر من اللازم، فهذه الأجهزة التي صهرت المسافة بين من هم بعيدون عنا، استطاعت في نفس الوقت أن تبني مسافات بين من هم يعيشون تحت سقف واحد، ومن تجمعهم طاولة واحدة.. هواتفنا وسرعة تواصلنا أصبحت تقربنا بطريقة مخيفة، ولم يعد هناك وقت للتفكير أو الهدنة، فالردود سريعة وسيل الكلمات لا ينتهي. حدث أمامي شجار بين رجل وزوجته في أحد المطاعم حين ظل هادئاً لفترةٍ، بينما زوجته تبحث بنهم عن شيءٍ ما من خلال جهاز الأيفون، ثم رفع صوته بعصبية ليفلت أنظار من كانوا بالمطعم، حين قال لها: ((إلى متى سيستمر هذا الوضع؟)) فتمتمت بكلماتٍ وبدا على وجهها الاستياء، وبعد جدالٍ أخف وطأة، خرجا وقد بدت واضحةً عليهما ملامح الغضب. وبعد يومين التقيت إحدى الزميلات مصادفة، وتبادلنا بعض الأحاديث السريعة، فوجدتها تشتكي بضيق وأسى عن إدمان زوجها على استخدام هاتفه الأيفون، وإنه ليس معها أبداً، ولقد كانت تتحدث بجدية وانفعال وبدت لي تغالب دموعها. علاوة على ذلك كل قراراتنا أصبحت سريعة، وقد أصبح سيل الكلمات بين المتنازعين دون انقطاع، لسهولة وصول كل منهما للآخر، وفي اعتقادي أنه بقدر ما نحن نعيش الآن نعمة التواصل السريع، فإننا أصبحنا نعاني من أسلوب تعاملنا معها، فكانت الأجيال السابقة أكثر عقلانية في ردود أفعالهم بسبب طبيعة التواصل في ذلك الحين، فكان المتسرع في ردود أفعاله يقف في وقفة إجبارية لتعثر وسائل الاتصالات السريعة، تعينه على الهدوء وإعادة النظر قبل إصدار أي قرار أو حكم. تذكرت إحدى الزوجات التي كتبت عن نفسها، وعن مشاجرة بينها وبين زوجها اشتعلت في المنزل، وتواصلت بإرسال الرسائل الفورية بعدما خرج زوجها من المنزل غاضباً، وما هي إلا ساعات من تلك الحرب المكتوبة حتى انتهت بإصرارها على الطلاق، وبإرسال رسالة منه يخبرها فيها بأنها "طالق". نحن الآن في حاجة لأن نهدأ ولأن نفكر قليلاً، ولنكن أكثر حكمة من الآله، قبل أن نجعل أداة تفكر لنا وتسيرنا، لننتبه إلى تغريدة نكتبها بانفعال سريع نصنع منها مشكلة أكبر، أو إلى صورة نرسلها دون تفكير منا في العواقب، تشعل النار فتحرقنا معها، أو رسالة سريعة من قرار أسرع تقلب علينا كل الموازيين ونموت بعدها ندماً.. دعوة للهدوء، ووضع أجهزتنا جانباً، فهناك لحظات في الحياة تستحق أن نعيش تفاصيلها، وهناك أشياء لا تستحق أن نسمح لها بأن تعكر صفو سعادتنا.. وقبل أي شيء علينا أن نحترم عقولنا، ونسمح لها بأن تبدع أفكارنا..