28 أكتوبر 2025
تسجيلكلما تعرّفتُ على نماذج جديدة لعشّاق اللغة العربية من غير العرب، وسعيهم لتعلّمها وإتقانها وخدمتها، وعرّفتُ بهذه النماذج، أدركتُ كم نحن مقصرون بحق لغتنا الأمّ، ومفرّطون في جنبها.حدثتكم من قبل عن الطفلة آسية الباكستانية (11 عاما) التي حصلت على الشهادة الجامعية في المحادثة بالعربية وهي في السابعة من عمرها، ثم الدبلوم المتقدّم باللغة العربية من الجامعة الإسلامية بإسلام آباد وهي في سن تسع سنوات، ثم تأليفها لكتابها الأول بالعربية للأطفال وهي بنت ثماني سنوات، ثم تأليفها لكتابها الثاني وهي في عمر تسع سنوات (وهما لغير الناطقين العربية).. وأحدثكم اليوم عن "أمينة" التركية ـ تدرس في السنة الثانية بكلية الإلهيات "الشريعة" ـ التي تطلق على نفسها "عاشقة اللغة العربية وآدابها"، وكيف تسعى للتعمق وإتقان التحدث بها، أخبرتني كيف أنها قطعت مشوارا مهما بعد حفظها للقرآن الكريم، حيث استطاعت التحدّث بالعربية بعد زيارتها للمغرب في برنامج جامعي تبادلي لمدة 5 أسابيع، متغلبة على خوفها وخجلها، وكيف تستفيد من أساتذة جامعيين سوريين يقيمون في تركيا، وتتلقى دروسا لحفظ ألفية ابن مالك وشرح المعلقات.. كما أنها تستثمر موهبتها الأدبية بالتركية فتنتقل لكتابة القصص والخواطر بالعربية، ولا تقتصر على الأخذ بل تعطي، فهي تدرس اللغة العربية للمبتدئين في اتحاد الكتاب باسطنبول. وباختصار لخصتْ عشقها للعربية بالقول: حبّ اللغة العربية لامس شغاف قلبي، فأصبحت كروحي، وتطمح بكل عزيمة للتعمق بالعربية، ونيل درجتي الماجستير والدكتوراه فيها.من المؤكد أن إهمالنا ـ نحن العرب ـ للغتنا الأم وتقصيرنا بحقها وتجاهلنا لها وتهويننا من شأنها أدى إلى غربة أجيالنا عنها، ولذلك مظاهر كثيرة ليس المقام للتفصيل فيها. ولكن ماذا عن تقصيرنا بحقّ لغتنا العربية مع غير الناطقين بها، إنه تقصير كبير ولا ريب، وهو يندرج في إطار "فاقد الشيء لا يعطيه"، فمن يقصّر بحق لغته الأم لا ينتظر أن يعنى بها مع غير الناطقين بها على الأرجح. قبل أشهر زرتُ تركيا واستمعت إلى صديق من المثقفين الأتراك، كان يركّز على أهمية أن تستثمر بلاده وجود اللاجئين السوريين الموجودين في بلاده حاليا خصوصا في مجال تعلّم العربية والقرآن والعلوم الشرعية، لاسيَّما أن بينهم كفاءات كبيرة، وبعضهم يدّرس حاليا في الجامعات والمدارس، ومما سمعته من الفتاة الطموحة "أمينة" ـ كحالة ـ يؤكد أهمية هذا الاستثمار. لغتنا العربية هي لغة القرآن ولها قداسة في نفوس مئات الملايين من المسلمين، وتعلمها يعزز من فهم كتاب ربهم وتعاليم دينهم، وتقوية صلاتهم في العالم العربي، وبالنسبة لغير المسلمين فثمة من يرغب في تعلمها في القارات الآسيوية والإفريقية والأوروبية أو الأمريكتين.. لاعتبارات مختلفة منها ما هو اقتصادي أو سياسي، ونشرها يقويّ من التعريف بثقافتنا، والترويج لتراثنا الحضاري، ولكن مع ذلك لم نفعل إلا النزر اليسير.هناك أمور يمكن أن تحدث فرقا في نشر العربية في أوساط غير الناطقين بها، وليس من الصعب القيام بها.. نوردها من باب التذكير: ـ زيادة اهتمام منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الثقافية الأهلية بتعليم العربية في أوساط العمالة غير العربية بدول كدول الخليج من خلال الدورات التدريبية و"الكروسات". ـ إضافة مراكز تعليم العربية لغير الناطقين بها إلى كليات اللغة العربية والآداب بجامعاتنا العربية، وتوسيع نطاق نشاط الموجود منها على مستوى الدورات والدبلومات العلمية والمهنية. ـ زيادة عدد مِنح تعليم العربية في جامعاتنا العربية على المستوى الجامعي والدراسات العليا.ـ تخصيص كفالات طلبة علم لدى المؤسسات الخيرية في الخليج والعالم العربي للراغبين بدراسة اللغة العربية من الأعاجم على مستوى الجامعة وما فوقها، وتمويل إقامة دورات لتعليم العربية في الدول التي لا تنطق بها، وتمويل إعداد وطباعة المناهج اللازمة. ـ تقديم دعم خاص للطلبة الموهوبين والمتميزين علميا من محبّي العربية والمتطلعين لإتقانها كآسية وأمينة، كتوفير فرص لهم للإقامة في دول عربية لعدة أشهر من أجل إتقان التحدث، أو كفالتهم تعليميا أو طباعة إصداراتهم وغيرها. ـ قيام الملحقيات الثقافية للدول العربية في الدول غير الناطقة بها بدور في هذا المجال. الأفكار كثيرة.. لكن الأهم من عرضها أن تتوفر القناعة الفعليّة لإعلاء شأن العربية بين أهلها، وتعليمها لغير الناطقين بها ونشرها في أوساطهم والتركيز على من يبلون عليها بحب وشغف.