13 سبتمبر 2025
تسجيللعل العلم الحديث أهم مصدر من مصادر التغيرات الاجتماعية في عصرنا هذا، ومع ذلك فإننا لا نستطيع تأكيد أن التقاليد والعادات الثقافية والقيم الأخلاقية والمعنوية – ذات الأساس العلمي - أصبحت مفهومة كل الفهم في أوسع نطاق.وثمة أمران واضحان في هذا العصر الذي نعيش فيه: الأول: هو أن الأبحاث العلمية قد أصبحت تلقى التشجيع والتمويل من جانب السلطات العامة، وفي مقدمتها السلطات الحكومية.والأمر الثاني: هو أن للعلم تأثيرا تحرريا كبيرا، إذ من أهم ثمراته إيقاظ العقل الإنساني وتخليصه من قيود أوهام الأسلاف، والعادات والتقاليد العمياء.ومع هذا فلا يزال كثير من الناس ينظرون إلى العلم نظرتهم إلى قوة شريرة معادية للإنسان، لا تنتج سوى الآلات التي تقضي على فردية الشخص وإنسانيته، وتحوله إلى صامولة صغيرة في آلة جبارة لا يعرف كنهها، أو لا تنتج سوى القنابل والمدافع والطائرات التي تؤدي إلى هلاك البشر. وللناس عذرهم في نظرتهم تلك إلى العلم فهم لم يروا من العلم –حتى الآن- سوى وجهه التدميري.. وهم لم يروا من العلم وجهه الآخر الذي يكفل للإنسان الحياة الرغدة.ولا يزال العلماء -من ناحية أخرى- بعيدين عن الناس، الأمر الذي يولد في نفوسهم الشك والارتياب، وللعلماء صفات تساعد على إبعادهم عن الجماهير. إنهم يتميزون بخصلة الاستغراب والدأب في البحث عن المجهول في الطبيعة والمجتمع، سواء كان ذلك المجهول ظاهرا أو خفيا، وسواء كان مقدسا أو ملعونا. والعلماء يتمتعون بشهوة لا تشبع، هي شهوة البحث عن الحقيقة والإخلاص للصدق. والعلماء يتميزون بالإصرار والدأب في البحث عن الحقيقة والصدق، ويتميزون بتفتح الذهن والاستعداد الدائم لتقبل الأفكار الطازجة والناضجة ويتميزون بعقل نقاد تجاه جميع المحاولات التي ترمي إلى القول بأن الإنسان قد وصل إلى الحقيقة الكاملة التي ليس بعدها حقيقة.وسيظل العلماء مبتعدين عن الناس، وسيظل الناس مبتعدين عن العلماء، حتى يصبح العلم في متناول الجميع، وحتى يصبح الناس متمتعين بميزات العلماء.وليست ميزات العلماء ثمرة قوة غيبية، أو هي تولد مع الإنسان فيصبح عالما، ولا تولد فيصبح من غير العلماء. إنها، في الواقع، ثمرة التدريب العقلي الذي يفرضه نظام البحث العلمي.ولا يتوارث العلماء عادة البحث العلمي، وإنما هم يكتسبونها بالعمل الدائب، وبالتمسك بخصلة الاستغراب والموقف النقدي وتفتح الذهن.ومن ناحية أخرى، يحاول كثير من العلماء أن ينقلوا إلى الناس العاديين بعض تجاربهم الثقافية، وبعض مغامراتهم في البحث والتفكير، وبعض القيم المعنوية والأخلاقية الكامنة في السلوك العلمي.وهناك كتاب ضئيل الحجم ولكنه شديد الأهمية عن "العلم والقيم الإنسانية" من تأليف الدكتور جون برونوفسكي، يقع في 94 صفحة، وهو قد كُتب بأسلوب المقالة، وبعبارات سهلة سلسة. وموضوع الكتاب نابع عن مشاعر إنسانية عميقة حركتها في نفس الكاتب المناظر التي شاهدها لخرائب ناجازاكي في أواخر 1945.وفي الفصل الأول من الفصول الثلاثة في الكتاب، يبدأ الدكتور برونوفسكي في توضيح حقيقة العلم. فيقول إن العلم ليس حقيبة حواة مليئة بالخدع والألاعيب، وهو أيضًا ليس حلم الغارقين في الخيال.إن العلم-في رأي الدكتور برونوفسكي- بحث دائب لإيجاد علاقة الوحدة فيما قد يبدو، لأول وهلة، وكأنه جزيئات مختلفة لا رابط بينها. ومع هذا، فلا يمكن اكتشاف التشابه الخفي في الأشياء وعلاقات الوحدة بينها، إلا بالخيال الإبداعي والخيال الإبداعي في العلم ليس هو الخيال الإبداعي في الأدب أو الفن.ويدلل الدكتور برونوفسكي على رأيه في الفرق بين الخيال الإبداعي في العلم والخيال الإبداعي في الأدب والفن باقتباسات عديدة من الشعر وباستشهادات كثيرة من تاريخ العلم.ثم ينتقل الدكتور برونوفسكي إلى الفصل الثاني. وفيه يحاول تأكيد أن الخيال العلمي يجب أن يكون خيالا موجها ومسيطرا عليه، ويجب أن يكون مؤيدا بالملاحظات المستمرة من الواقع، ومدعما بالحقائق المستمدة من التجربة.وهنا يقول إن المزاعم عن وجوب التسليم والإيمان بأفكار معينة لا تعتبر –على الإطلاق- مقياسا بصحة تلك الأفكار. ويتمسك الدكتور برونوفسكي بصورة تجربة الأفكار، وتطبيقها في المجتمع، كما هو الحال في ضرورة تجربة وتطبيق الآراء في العلوم الطبيعية، وهو يرى في تعود الإنسان على اختبار آرائه، واستعداده الدائم لتصحيحها، الصفة المميزة لحضارتنا الحديثة، كما يرى أن تلك الصفة هي التي تميز بين التفكير العلمي الحديث، وتفكير القرون الوسطى.ومن ناحية أخرى يقول الدكتور برونوفسكي إن شرط التجربة والتطبيق في البحث العلمي وفي الآراء العلمية لا يعني أبدا، أن النظريات العلمية ليست سوى مجرد تلخيصات موجزة لما يلاحظ في الطبيعة أو في المجتمع، وهو ينتقد أولئك العلماء الذين يرفضون جميع النظريات التي ترسم صورة أبعد من كل ما يمكن ملاحظته في الواقع، بحجة التمسك بالتجربة والتطبيق.وفي الفصل الثالث يحاول الدكتور برونوفسكي أن يبين القيم الأساسية في الحضارة الصناعية الحاضرة، وهي الحضارة التي تكون أساس العلم الحديث.وهو يقول إن القيم الأساسية في تلك الحضارة هي وجوب التمسك بالاستقلال في الرأي والإبداعية في الملاحظة" والتحرر من المعتقدات الموروثة أو المسلم بها، والتسامح ا"لإيجابي النشيط تجاه وجهات النظر إلى أن تنقض نقضا علميا.وفي رأي الدكتور برونوفسكي أن قيمة العلم لا تكمن فقط في مساهمته في تمكين الإنسان من السيطرة على الإمكانات البيولوجية والفيزيقية في الطبيعة، وإنما هي تكمن كذلك في أسلوب التفكير العلمي الذي يكفل إقامة مجتمع حي مستقر لا فساد فيه.إن كتاب "العلم والقيم الإنسانية" جدير بأن يكون في متناول كل معلم بل وكل إنسان.