13 سبتمبر 2025
تسجيلهي جنة الأحلام التي ينشدها كل البشر، ينشدها الفيلسوف في قمة تفكيره وتجريده كما ينشدها العامي في قاع سذاجته وبساطته. ينشدها الملك والسلطان في قصره كما ينشدها الصعلوك في كوخه، وليس هناك أحد في هذا الكون يبحث عن الشقاء أو يرضى به لنفسه. ولكن السؤال القديم الجديد هو: أين هي السعادة وفي أي مكان توجد وكيف يمكن الحصول عليها؟ لقد طلبها أناس كثر في غير موضعها حتى قال قائلهم: هنا أكسير السعادة، فعادوا كما يعود طالب اللؤلؤ في الصحراء، صفر اليدين مجهود البدن كسير النفس كليل الخاطر خائب الرجاء. نعم لقد جرب الناس ولا يزالون ألوانا من المتع والرياضات المادية، جربوا صنوف المتع والشهوات الحسية فما وجدوها تحقق السعادة وجربوا أنواع الرياضات كالصوم على غير الوجه المأمور به شرعاً فما وجدوا السعادة وجربوا رياضة (اليوغا) فما وجدوا السعادة. لقد ظن هؤلاء ربما تكون السعادة في الغنى وفي رخاء العيش ورفاهية الحياة دون سواه فركبوا كل صعب وذلول وطلبوا الغنى بكل الوسائل حتى لو كانت على حساب الآخرين ظناً منهم أن تيسير مطالب الحياة المادية من منكح ومسكن ومأكل ومشرب ومركب تجلب السعادة لأصحابها إلا أنهم لم يجدوا ذلك فهم لا يزالون يشكون من تعاسة الحياة. ومنذ زمن بعيد نشرت مجلة (روز اليوسف) المصرية، وهي مجلة يسارية لا يعنيها الإيمان ولا القيم الروحية عنواناً يقول: "أهل الجنة ليسوا سعداء" وتعني بأهل الجنة هم سكان بعض الدول الأوروبية الأسكندنافية ومثلت لذلك بالسويد الذين يعيشون في مستوى اقتصادي يشبه الأحلام حتى وصل نظام الحكم إلى إلغاء الفوارق الاجتماعية درجة تكاد تمحوا الفروق بين الطبقات وذلك بفرض الضرائب التصاعدية وإيجاد مختلف أنواع التأمينات التي لا توجد في دول أخرى. ومع هذه التأمينات والضمانات التي لم تدع ثغرة إلا سدتها فقد ذكر تحقيق المجلة: إن الناس يحيون حياة قلقة مضطربة كلها ضيق وتوتر وشكوى وسخط وتبرم ويأس ونتيجة هذا أن يهرب الناس من هذه الحياة الشقية إلى (الانتحار) الذي يلجأ إليه الألوف من الناس للتخلص مما يعانونه من عذاب نفسي أليم وانتهى تحقيق مجلة روزاليوسف إلى أن وراء هذا الشقاء أمر واحد هو " فقدان الإيمان" أي إيمان. فكثرة المال ليست هي السعادة ولا العنصر الأول في تحقيقها وقد تكون الدنيا سبباً لشقاء طالبها. قال بعض الصالحين: من أحب الدنيا فليوطن نفسه على تحمل المصائب. فمحب الدنيا لا ينفك عن ثلاث: هم لازم، وتعب دائم، وحسرة لا تنقضي، وذلك لأن محبها لا ينال منها شيئاً إلا طمحت نفسه إلى ما فوقه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثاً". وقد مثل السيد المسيح عيسى عليه السلام محب الدنيا كشارب الخمر كلما ازداد شرباً ازداد عطشاً. كذلك ظن كثير من الناس ربما تكون السعادة في الأولاد. نعم إن المال والغنى أحد مكملات السعادة إذا أخذ من حله وأنفق في محله وأن الأولاد هم أيضاً أحد مكملات السعادة فهم زهرة الحياة وزينة الدنيا، ولكن كم في أولاد جروا على أبائهم من نكد العيش، فكان جزاؤهم العقوق والكفران مكان البر والإحسان بل ربما وصل الأمر ببعض الأبناء إن كان حتف الآباء على أيديهم طمعاً في ثرواتهم أو لإزالتهم عن طريق تنفيذ شهواتهم حتى وجد من الآباء من يقول متأسفاً: غذوتــك مولوداً وعلتــك يافعاً إذا ليلة نابتك بالشجو لـــم أبت فلما بلغت السن والغاية التي جعلت جزائي غلــظة وفظاظة تعل بما أســـدي إليك وتنهل لبلـــواك إلا ساهــــراً أتململ إليها مـــدى ما كنـــت فيـــك أؤمل كأنك أنت المنعــــم المتفضل لهذا قال شكسبير: ليس أشد إلاماً من ناب حية رقطاء، غير ابن جحود إذا فالسعادة ليست في وفرة المال ولا سطوة الجاة والسلطان ولا كثرة الولد إن السعادة لا تقاس بالكم ولا تدخر في الخزائن ولا تشترى بالدنانير والدراهم. إن السعادة شعور يختلج بين جوانح الإنس ويسكن تجاويف القلب. فيورث ذلك الشعور انشراح الصدر وراحة الضمير. السعادة شيء ينبع من داخل الإنسان لا يباع ولا يشتري ولا يستورد. وقد ذكروا في القصص أن زوجاً غاضب زوجته فقال لها متوعداً: لأشقينك فقالت الزوجة في هدوء وسكينة وثقة: لا تستطيع أن تشقيني كما لا تملك أن تسعدني. فقال الزوج في غضب: وكيف لا أستطيع ذلك؟ فقالت الزوجة في ثقة: لو كانت السعادة مرتباً لقطعته عني أو كانت زينة من الحلي لحرمتني منها، ولكنها شيء لا تملكه أنت ولا الناس أجمع. فقال الزوج في دهشة، وما هو؟ فقالت الزوجة في يقين: إني أجد سعادتي في إيماني وإيماني في قلبي وقلبي لا سلطان عليه لأحد غير ربي. نعم لقد قال بعض أهل الإيمان: لو كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه الآن لكانوا إذاً في عيش طيب ومن هذا القبيل ما أخبر به مولانا عز وجل في كتابه في الكريم فقال: (من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة) وهذا وعد من الله تعالى لمن عمل صالحاً وهو العمل المتابع لكتاب الله تعالى وسنه نبيه صلى الله عليه وسلم من ذكر أو أنثى من بني آدم وقلبه مؤمن بالله ورسوله وأن هذا العمل المأمور به مشروع من عند الله بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا وأن يجزيه بأحسن ما عمل في الدار الآخرة. والحياة الطيبة: تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت من الرزق الحلال الطيب والقناعة حتى قال ابن عباس: إنها هي السعادة" ابن كثير 2/538 ولا ننسى سحرة فرعون حينما غمرت السعادة قلوبهم بعد انشراحها للإيمان فأخبر الله عنهم أنهم قالوا له: "اقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا" وقال بلال العبد المعذب: أحد أحد والله لو أجد كلمة هي أغيظ عليكم منها لقلتها" لأنه وجد السعادة بالواحد الأحد. وبين هذا وذاك فإننا لا ننكر ما للجانب المادي من تحقيق السعادة كيف وقد قال السيد المبجل محمد رسول الإسلام:" من سعادة ابن آدم: المرأة الصالحة والمسكن الصالح والمركب الصالح".