15 سبتمبر 2025

تسجيل

الثقة والائتمان

01 نوفمبر 2023

قوام التجارة يقوم على الثقة والائتمان بين المتعاملين، ولتوضيح ذلك، نضرب المثال التالي حتى يتسنى فهم "الائتمان والثقة" كخاصية مميزة للقانون التجاري، يقوم التاجر ببيع وشراء البضائع لكن هذا لا يحدث بصورة فورية بل بأجل معين غالبًا، فلا يتم دفع الثمن في حال إبرام البيعة أو الصفقة، وفي حين أخرى قد لا يصل إلى هذا الأجل الذي يمهله حتى يدفع ثمن البيعة أو الصفقة، فيقوم التاجر باللجوء إلى أحد البنوك ويقترض منه حتى يتمم هذه الصفقة الذهبية التي لا تُفوت، ويقوم البنك هنا بتقديم القروض للتجار من خلال فتح الاعتمادات التي تخوله استيراد البضائع من الخارج. وهلم جره، فتترابط العلاقات ببعضها البعض، وكل منهم يصبح دائنًا ومدينًا في آنٍ واحد، لكن ماذا إذا تخلف تاجر عن الوفاء بالتزامه! يترتب على ذلك تخلف التجار الآخرين عن الوفاء أيضًا، وهذا ما يسمونه الائتمان والثقة، التجار يتعاملون بما يفوق قدرتهم المالية، فلا حاجة إلى سيولة مالية؛ لأن الائتمان والثقة يحلان محلها. وعصب الحياة التجارية هو الائتمان، فالقانون التجاري يقوم على توفير الائتمان عن طريق توفير الضمانات للدائن التجاري، فكلما زاد الضمان زادت فرصة الحصول على الحق، بل كان إضافة إلى ذلك يكون التاجر معطاء لهذا الضمان لمن يريده، والائتمان مصلحة لكل من الطرفين الدائن كما سلفنا ذاكرين، والمدين فهو يحصل على الائتمان في آخر الأمر. وتوجد عدة صور لدعم الائتمان والثقة في القانون التجاري ومنها، جاءت المادة (74) من القانون التجاري لتؤكد على دعم الائتمان والثقة، فنصت على أن "الملتزمين معًا بدين تجاري، يسألون على وجه التضامن، ما لم ينص القانون أو الاتفاق على خلاف ذلك"، وهو ما يعرف بالتضامن المفترض بين المدينين، ففي الالتزامات التجارية يكون التضامن مفترضاً دون حاجة إلى اتفاق، وذلك على خلاف الالتزامات المدنية التي يجب أن يكون للتضامن فيها مصدرًا كالعقد أو القانون، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على وجود ضمان كاف للدائن، حيث يمكن له الرجوع على أي من المدينين ويذهب على الأرجح أنه يذهب إلى المدين الملاءِ حتى يقتضي حقه. كذلك الإفلاس يعد من أهم صور دعم الائتمان والثقة في القانون التجاري، ودعمًا لذلك، توجد قواعد قاسية للمدين التاجر الذي يتخلف عن دفع ديونه ويخالف هذه الثقة الممنوحة من قبل الدائن، حيث قضت هذه القواعد بإشهار إفلاس التاجر الذي توقف عن دفع ديونه، ويترتب على الإفلاس مصائب ومصاعب في حياة التاجر، فيحرم من الحقوق ويصاب بالعار. ولكي نبين مدى خطورة ذلك وكيف يساهم شهر إفلاس التاجر في رفع سقف الائتمان في القانون التجاري، ندلل أن الذي يصدر حكم في شأنه بإفلاسه، تغل يده عن إدارة أمواله، ويعين ويقوم ويتصرف فيها وكيل الدائنين (وكيل التفليسة)، وتكون جميع التصرفات التي أبرمت من تاريخ توقفه عن دفع ديونه إلى تاريخ صدور الحكم بإفلاسه غير نافذه وجوبًا وفي حالة أخرى غير نافذة جوازًا، وتسقط منه بعض الحقوق المهنية والسياسية المكتسبة، بل تقع عليه عقوبات جنائية في حالة ما إذا قصر أو دلس في إفلاسه ويلصق به العار. ونضرب عدة أمثلة من القانون التجاري تؤكد على أن الإفلاس يعد وسيلة داعمة للائتمان والثقة، فجاء المشرع في نص المادة (618) من القانون أعلاه، ونص على أن "تعين المحكمة مديرًا للتفليسة، وتأمر بوضع الأختام على محال تجارة المدين وخزائنه ومخازنه، وتندب المحكمة أحد قضاتها ليكون قاضيًا للتفليسة...". وعند التقدم قليلا نجد المادة (626) تنص على أنه "لا يجوز لمن شهر إفلاسه أن يكون ناخبًا أو عضوًا في مجلس الشورى أو المجلس البلدي المركزي أو غرفة تجارة وصناعة قطر أو الجمعيات ولا أن يكون مديرًا أو عضوًا في مجلس إدارة أية شركة أو مديرًا لها، ولا أن يشتغل بأعمال الوكالة التجارية أو التصدير أو الاستيراد أو السمسرة في بيع أو شراء الأوراق المالية أو البيع بالمزاد العلني. كما لا يجوز لمن شهر إفلاسه أن ينوب عن غيره في إدارة أمواله، ومع ذلك يجوز للمحكمة أن تأذن له في إدارة أموال أولاده القصر، إذا لم يترتب على ذلك ضرر بهم، وذلك كله إلى أن يرد إلى المفلس اعتباره وفقًا لأحكام القانون". ومن الخصال التي تفرض دعم الائتمان والثقة في لب القانون التجاري، هي التزام التاجر بمسك الدفاتر التجارية، حيث تكون الدفاتر مرآة تعكس مركز المالي ونشاطاته التجارية وتقييم أوضاعه، وما يدون فيها يعبر عن أمانة التاجر وصدقه، وعدم الالتزام بهذا الفرض يترتب عليها جزاءات مدنية وعقوبات جنائية. وتدليلًا على ما سبق جاء المشرع في المادة (21) من القانون التجاري، ونص على أنه "على كل من تثبت له صفة التاجر، طبقًا لأحكام هذا القانون، أن يمسك الدفاتر التجارية التي تستلزمها طبيعة تجارته وأهميتها، بطريقة تكفل بيان مركزه المالي بدقة". ومن أهم مظاهر دعم الائتمان والثقة التجارية، العلانية التجارية، وحماية الوضع الظاهر؛ فالقانون يُلزم التاجر بقيد مجموعة من المعلومات والبيانات المتعلقة بالنشاط التجاري التابع له، وذلك بهدف حماية الغير. ومن أهم صور حماية الأوضاع الظاهرة، هي الشركة الفعلية، وهي الشركة التي لاحقها البطلان لسبب ما إلا أن البطلان لا يرتد للماضي وإنما ينال مستقبل الشركة فحسب.