18 سبتمبر 2025
تسجيلوحده المجتمع المدني الكفيل بإنزال المواطن من فوق الشجرة، وبعثه روحاً تسري في أوصال المجتمع. لو استقرأنا التاريخ لوجدنا أن التغيير الراديكالي وما قد يصاحبه من سلبيات هو نتيجة عدم الاكتراث بوضع الإنسان الذي قد يأخذ شكلاً آخر عندما تصطدم آماله وطموحاته بما لا يطيقه، أو يستطيع التعبير عنه، فيسقط على الأرض ويرتطم بالواقع ارتطاماً. المواطن العربي بشكل عام؛ إما مريض بالهذيان والاكتئاب، يخلط الماضي بالحاضر، والدين بالدنيا، يهذي بأمجاد الأمس ولا يملك حاضره، وليست لديه القدرة على استشراف مستقبله، وإما مواطن فوق الشجرة يتكلم عن الحرية وهو أول من يحرِّمها على غيره. يتحدث عن النظافة ليلقي بأوساخه في الشارع وأمام البيت، يتأسف على ضياع الأمانة ليمارس النفاق سراً، يدعو إلى النظام ليفتخر بتجاوزه بعد ذلك، يبكي على الديمقراطية الغائبة لينحاز إلى العرق والطائفة والقبيلة حتى الرمق الأخير، يطلب الانتخابات ليكون أول المتنصلين من نتائجها، يقول شيئاً في العلن ليضمر شيئاً آخر في السر، يمارس التقية ويدّعي صفاء النية. المواطن هنا ضحية أكثر منه مرتكبُ لكل تلك المثالب، هي تمظهر حقيقي لغياب المجتمع المدني الحقيقي الذي يرفع الشخص إلى مستوى الإيمان بالفكر الذي يميز الإنسان عن غيره من الكائنات، والذي يعطيه الحق في الدفاع عما آمن به، والقوة في قول ما اقتنع به كذلك. المجتمع المدني وحده القادر على انتشال المواطن من بؤرة التكور حول الذات لحمايتها إلى مجال الحوار الإنساني البناء، والثقة بالنفس والانتماء المهني والفكري اللازم لبناء الوطن والأمة. لن تكون الدولة -أية دولة- على هدى وبصيرة وهي لا تحمل في ثناياها بذور مجتمع مدني حقيقي؛ هو بوصلتها الحقيقية نحو بر الأمان، وهو الحد الفاصل بين رشدها وغيها. لقد ظُلِمَ المواطن العربي غير مرة، ظُلم عندما صدَّق وعود الديمقراطية الآتية لا محالة ولم ير سوى شعارات ترفع وعبارات تردد، وظُلم عندما دُعي إلى الانتخابات؛ وكتبنا على الصندوق اسم القبيلة والعشيرة، وظُلم ثالثة عندما فرَّغت الدولة بذور المجتمع المدني من مضامينها وألحقته بها. الدولة اليوم تقوم بكل شيء من أجل المواطن حتى في مجال الترفيه، إنها تعيد الماضي إليه مُعلباً، وتضع له المستقبل في كبسولة ليتناولها صباحاً. جميل كل هذا ولكن إلى متى سيبقى فوق الشجرة، أما آن له أن ينزل إلى ساقها ليضمه، وأن يشارك في رفدها بماء الحياة انطلاقاً من محليته وخصوصية؟. أنزلوا المواطن أيها السادة من على الشجرة لن تكتمل إنسانيته حتى يعيش الحياة ممارسة، ولن يشعر بكينونته حتى يعيشها قيمةً ومعنى.