12 سبتمبر 2025

تسجيل

نخب سابقة التعليب !

01 نوفمبر 2013

ظهر في عالمنا العربي والإسلامي وعلى مر تاريخه الكثير من المفكرين والمثقفين الرياديين الذين قصروا حياتهم على أعمال العقل والتفكير والكتابة والتأليف،لتجاوز الفكر السائد وتقديم رؤى فكرية ذات طابع مستقبلي لنهضة عقلية وفكرية وعلمية وسياسية واقتصادية وإدارية واجتماعية.كان الشرط اللازم في كل تلك النماذج، هو الاجتهاد والدأب والاطلاع والدراسة والمعاناة -في مواجهة الجمود والتحجر والديكتاتورية والنفاق -مع عدم الانشغال بجمع الثروات وتحقيق الجاه المجتمعي. ولم يسجل أن أحدا من هذا النمط قد تربى في كنف السلطات إلا في عصور النهضة.هؤلاء كانوا تعبيرا عن ضمير الأمة ونتاج لحركة المجتمعات. الأمر مختلف الآن،إذ ثمة نوع ونمط آخر تجرى عملية كاملة لتصنيعه بطريقة مخططة من قبل من يسيطرون على إدارة المجتمعات،ليكون أفراد هذا النمط على مقاسات الحكم والسلطات. ويمكن القول إن الصناعة تجرى على مقاسات بقاء الحكم الديكتاتوري،وأنها عملية تجرى في حالة أقرب إلى صناعة وتعليب المنتجات وبيعها في الأسواق للجمهور العام. ما نتحدث عنه ليس ذاك النمط التقليدي الشهير وجوده في العالم العربي بدءا من الستينات وحتى التسعينات،من وجود مثقفي السلطة أو مبرري السلطة،الذين تكسبوا من تبرير كل الأفعال واقتصر دورهم على تمجيد وتعظيم الديكتاتور والترويج له في أوساط العامة.وهم تقلبوا من موقف فكري وسياسي إلى موقف آخر،دون خجل ولا وجل،وصاروا يغيرون جلودهم من حكم ديكتاتور إلى آخر.تلك النماذج وإن لا تزال موجودة،إلا أن عناصرها فقدت الكثير من دورها بعد أن باتوا "دقة قديمة"،وصاروا يخلون الطريق إلى هذا النمط الجديد الذي يجرى صناعته الآن. ما نقصده هو نمط من قادة الرأي العام،وهذا هو الوصف الأدق،الذين تجرى صناعتهم في المختبرات عبر دورات إعداد وتدريب يتعلمون خلالها كيفية السيطرة على الرأي العام وطرق الإقناع والسيطرة على العقول وتبرير السياسات والترويج للديكتاتور والجهاز التنفيذي والقرارات الحكومية،وفق نمط تحليلي وبطريقة تبدو علمية.هؤلاء لا سابق خبرة لهم بالاحتكاك بعالم الفكر والسياسة ولا بتطور العقل الإنساني فلسفيا وعلميا،وما لديهم ليس إلا نمط من إعادة التأهيل على أجندات ومدونات يجرى تلقينهم إياها،ومن بعد ليلة وضحاها،يجرى تقديمهم لقيادة الرأي العام والتأثير فيه،من خلال أجهزة الإعلام. هذا النمط من الشخوص لا يقدم نفسه بنظرة المؤيد والمعارض والمادح والذام –إلا في الحالات الاستثنائية –بل هو يعمل ويتحدث وفق لغة "تدويخ" المواطنين وبث الأطروحات لتشتيت عقول المشاهدين ومنع وصولهم إلى حالة الإجماع والاحتشاد حول فكرة رافضة للديكتاتورية.وهؤلاء يسيرون وفق خطط مسبقة للانتقال بالجمهور العام من فكرة ورؤية تسيطر عليه في مراحل الأزمات إلى حالات من الرمادي ومن بعد ينقل الجمهور إلى فكرة مضادة..الخ. وهذا النمط هو حالة استبعادية للقيادات الطبيعية التي يشكلها المجتمع من خلال تجربته وخبراته وصراعاته ومن داخل نشاطاته النقابية وأحزابه السياسية وتكويناته القبلية والعشائرية أو المؤسسية حسب ظروف كل مجتمع،فهم يهبطون بالبراشوت من أعلى ودون سابق خبرة إلا ما تعلموه وتدربوا عليه في مختبرات الإعداد،ولذا يأتي حديثهم مجردا من المضامين الفكرية والسياسية،مركزا على الشكليات مع تضمينها أعلى درجات الحرب النفسية وأساليب خداع العقل ودغدغة المشاعر.وفي ذلك يجرى الاستفادة من مجهولية تاريخهم على خلاف "الطبالين القدامى" الذين انعزل تأثيرهم على الجمهور. لكن الأخطر من كل ذلك،أن تكرار ظهور هؤلاء على الرأي العام من خلال وسائل الإعلام خاصة الفضائيات،لا يحول هذه النماذج المصنعة قادة وموجهين للرأي العام فقط،بل يجرى تقديمهم كمفكرين أو كبديل يقوم بدور المرجعيات الفكرية،إذ يصبحوا نماذج للمثقفين في أعين الرأي العام ولدى الشباب الذي يتربى بعيدا عن ثقافة المجتمع وأصوله وكلياته –لضعف الاهتمام بالقراءة ولتدهور التعليم- فلا يجد أمامه إلا ما يقول هؤلاء،فيصبحون في وضع الموجه الفكري أيضا.