11 سبتمبر 2025
تسجيلالذي يدعوني دائما للتساؤل، وقد يدعو الكثيرين مثلي، هو لماذا نصادف في حياتنا الكثير من البشر، قد تتعمق علاقاتنا معهم، لكننا لو سبرنا أغوار أنفسنا، لوجدنا أنهم لم يضيفوا لنا أية بصمة أو نتأثر بنواحي شخصياتهم المتعددة، وقد يمرون بحياتنا وينتهون منها دون أن تكلف ذاكرتنا نفسها ولو لحظة لتستعيدهم. بينما هناك من الناس من قد نصادفهم في حياتنا مرة واحدة فقط، لكنهم يحدثون بنا ذلك التأثر العميق، ويحفرون داخلنا لهم صورة وموقف وكلمة، قد تؤثر فينا بشكل مباشر، وأيضاً تغير أشياء فينا بشكل سريع. وقد صادفت من الناس الكثير ممن يمرون مرور الكرام، والقليل ممن يحفر تلك البصمة، وقد كانت (هميان) من أولئك الذين حفر تلك البصمة التي أقصدها.(هميان) التي لم أصادفها في حياتي سوى مرة واحدة فقط، كان هو اليوم الذي تعرفت عليها فيه، وهو اليوم الذي ودعتها فيه. كنت في رحلة علاجية قصيرة إلى لندن، ترافقني أختي التي تعرفها أكثر وقريبة منها أكثر، وتصادف وجودها لتلقي بقية علاجها الذي بدأته منذ سنوات، وقد أصرت أختي على ألا أفوت الفرصة عن لقاء هذه الإنسانة، وكانت تحدثني عن طيبتها وعن تخلقها العميق بأخلاق الإسلام، وعن عطائها وتضحيتها وإضاءاتها في حياة من يحيطون بها. فكان لقاء لي معها أذكره من أول لحظة تعرفت فيها عليها، وجدت الابتسامة والطيبة مرسومة على وجهها، وشعرت وكأنها مرت بحياتي وأعرفها منذ زمن طويل، تحدثنا سريعاً في مواضيع كثيرة، وضحكنا معاً من القلب لبعض المواقف التي دارت خلال حديثنا، والحقيقة أنني ذهلت أمام شخصيتها وقوة إيمانها وهي تنظر لكل معاناتها مع المرض بكل الرضا والأمل والتحمل والتماسك، وتردد كلمات عميقة وعظيمة في الصبر، وحديث رائع حول الغد مهما كان ما يخبئه لها فيه القدر، وتردد في طيات حديثها بأن كل ما يأتي من الله فهو خيرالله. ووجدتني أتماسك كي أحبس عبارة خنقتها بقوة في حلقي، فكم كنت ضعيفة وكم كانت قوية بإيمان واضح أنه لم يخلق جديداً بسبب مرضها، وإنما هو خلق وأخلاق تأصلت فيها وتربت نفسها عليها. فبالتأكيد ان معرفة الإنسان لحقيقة ما به من مرض قد يقوده إلى الانهيار، لكنني وجدتها صابرة محتسبة، تتحدث عن جمال الحديقة والجو والطيور، تتحدث عن الشوق للأهل والأحبة وقرب اللقاء، وتتحدث عن طعم الشاي وروعة المطر، ومضى الوقت سريعاً وكانت (هميان) سعيدة كما كنت سعيدة، وودعتنا سريعا قبل حلول المساء، تحمل في يدها كيساً تريد أن تصل به إلى الحديقة، كي تطعم الطيور التي اشتاقت لها ولم ترها منذ فترة، ودعتها بحرارة كحرارة اللقاء وتمنيت وتمنت أن تجمعنا الأيام مرة أخرى، فالحياة طويلة ولابد من اللقاء، وذهبت تمشي بردائها الأسود، وبهالة من عفاف وطهر وابتعدت وابتعدت، وتوارت واختفت خلف الزحام.. ولم أرها بعدها، تماماً كما توارت واختفت من الحياة بهدوء وسكينة ولن نراها بعدها. ووجدت أنني أشعر بالخجل، لأنني اعتبرت ما أعانيه من ضيق هو كل شيء، يطبق على أنفاسي ويفسد طعم الأشياء الجميلة، ولكنني بعدها شعرت بضآلة ما أعاني، وشعرت بضخامتها وعظيم إيمانها عند الأشد الذي تعاني. لقد مدت لي قناة من إيمانها العظيم، ومن إعجاب بأخلاق رفيعة، ومن شعور بصدق المشاعر الإيجابية التي مدتني بها. إنها (هميان) التي انتقلت إلى جوار ربها راضية مرضية، فكفى بها أن تثبت في ذاكرة وقلب إنسان لم يرها إلا مرة واحدة، تعلم بعدها أن يكون قوياً مهما كانت الظروف، فكيف بمن عاش معها وتعلم منها وتأثر بها أن يحزن على رحيلها وفراقها، ذلك الفراق الأبدي الأليم، وعزاؤنا أنها بجوار رب رحيم عظيم عالم بإيمانها، طالما كانت قريبة منه، راضية بعطائه وقدره. هناك من يقول إن علينا أن نخص بكتاباتنا شخصيات معروفة معينة من البشر، لكن الحياة فيها من العظماء من هم متوارون خلف الأبواب لا أحد يعرفهم، يستحقون أن نكتب عنهم، وعن أخلاقهم وعطائهم، أن نتعلم منهم، وأن نصل بتجربتهم للعالم، وتلك هي (هميان)..رحم الله (هميان).. وأسكنها فسيح جناته.. [email protected]