19 سبتمبر 2025
تسجيليمكن ملاحظة المزاج العام للمجتمع من خلال بعض مؤشرات نفسية وعاطفية، تفرزها أولا الطبيعة الدينية للمجتمع. وبقدر ما يكون النظام متوافقا معها، بقدر ما يكون مقبولا، نظرا لأن الدين في مجتمعاتنا يأتي أولا قبل الدولة، فهو ليس حالة خاصة ضمن الدولة بقدر ضرورة انتظامها معه . كانت هناك حالة من التوافق والرضا بين الرؤية للماضي وقبول الحاضر والتطلع للمستقبل، بمعنى ليس هناك وضع يجعل المواطن في حالة حنين إلى الماضي أو الشوق إليه. لم يكن المواطن يشعر بأي نوع من المنافسة، فهو في عين الوطن، مع قيام الدولة بمشاريع التعليم والصحة التي كانت مرتبطة بأجندة اجتماعية كبيرة، من خلال المساعدات بجميع أشكالها العينية، بالذات التي كانت توزع على الطلاب مجانا خلال الصيف والشتاء، كذلك بالمغريات المالية لجذب الطلبة إلى المدارس وإلى النظام التعليمي. درجة التعاطف خلال تلك الفترة كبيرة جدا، ولا تقتصر على المناسبات كالعزاء أو الزواج، وإنما يمكن مشاهدتها وملاحظتها بشكل يومي بين أبناء المجتمع، فهم كانوا يعيشون بين المسجد والمجلس. وأعتقد أن نمط التجمع السكاني الطبيعي والتلقائى الذي تغير لاحقا، كان له أثر كبير في إعلاء قيمة التعاطف هذه لدى المجتمع في تلك الفترة. كان المجتمع في تلك الفترة أكثر استجابة للتأثير الخارجي من الدولة، أو السلطة، الأمر الذي سنرى لاحقا أنه مر بمرحلة توازن. ثم بعد ذلك في منتصف التسعينيات وما بعد أصبحت دولة قطر دولة تؤثر بقدر ما تتأثر أو ربما أكثر مما تؤثر، حينما تغيرت ديناميات النظام المعرفي نتيجة لتغير دور الدولة محليا ومناطقيا وعالميا. فقضية فلسطين، والمد الناصري، في ذلك الوقت، جعلا الشخصية القطرية تتأثر كذلك بالنظام المعرفي العربي العام، الأمر الذي خفف من تركيزها على تأثيرها في طبيعة إنتاج نظام المجتمع المعرفي، واهتمامها أكثر بالأيديولوجيا. ولم تستفق من ذلك إلا وقد كانت بنية النظام المعرفي الاقتصادية قد استحكمت تماما، ولم يعد هناك مجال للمفاوضة أو للمقايضة مهما كان ضيقا. المثقف في تلك الفترة كان الفداوي والخوي بالمعنى الحقيقي، وليس المجازي، الذي سنرى لاحقا أنه عاد إلى الظهور مرة أخرى، وهما مصطلحان معروفان ولا داعي لشرحهما. يبقى أن أشير إلى أن محددات أو أقانيم النظام المعرفي لمرحلة ما بعد النفط، هي الريع والحكم والمجتمع والمسافة بين هذه الأبعاد الثلاثة، فكلما كانت هناك مسافة مثلى نوعا ما، كان هناك نظام معرفي أكثر إنسانية وتطورا، ويمكنه الانتقال بالمجتمع إلى مرحلة جديدة والعكس صحيح كذلك. بينما كانت المسافة قبل ذلك هي بين أفراد المجتمع والبحث عن سلطة تمثله، وتعبر عن إرادته بعيدا عن أي تأثيرات أخرى. في السبعينيات حتى أواخر الثمانينيات، سيطر خطاب الحكومة على النظام المعرفي في المجتمع القطري، وبرز الموظف المدني، والموظف العسكري، كرمزين لتلك المرحلة وكمرتكز لطبقة وسطى حكومية واضحة آخذة في التشكل، وبدأ النظام المعرفي في المجتمع بالسماح في اعتماد العلم كقيمة وظيفية في الحياة، وبالتالي في الانعتاق من الأشكال الريعية الوظيفية السابقة كالفداوي والخوي والخادم. لذلك أسميت النظام السائد في تلك المرحله بنظام" التموضع"، بمعنى تمكين المواطن من الوقوف مستقلا إلى حدٍّ ما بين الريع والسلطة. وأعني بالسلطة، ليس المفهوم السياسي وإنما المفهوم الاجتماعي أي أصحاب السلطة، وهم العائلات الحاكمة في الدول العربية في الخليج . وأعتقد أن وجود هذه المسافة بين الريع والسلطة في ذلك الوقت هي التي سمحت بالاتجاه نحو دور أكبر للحكومة وللمجتمع، وليس بسبب طلب داخلي على ذلك، ولكنها رؤية كانت تتسق مع الوضع العربي السائد في حينه، المتمثل في المواجهة مع إسرائيل، ثم وقوع الحرب الإيرانية العراقية، وتأثيرها المباشر على المنطقة. وكما ذكرت سابقا، فالريع هو الريع عبر تاريخ المجتمع القطري، لكن رؤية السلطة له هو الذي يسبب الاختلاف من مرحلة إلى أخرى، ويفرز بالتالي نظاما معرفيا بناء على ذلك الاختلاف والتبدل. يتبع [email protected]