12 سبتمبر 2025

تسجيل

استقالة العقل العربي!

01 أغسطس 2018

ما عَبد اللهَ عابدٌ أعظمُ من عاقل يفهم عنه، وما من عبادة أجل ولا أدل على الله من إعمال العقل بالتفكير، فما من كتاب سماوي ولا أرضي يحتفي بالعقل ويُجِلُّه كالقرآن الكريم، في أي شرعة أخرى يكافأ المجتهد المصيب بأن له أجرين؟ ومع ذلك إن أخطأ فلن يعدم أجراً؟ إنه خطأ يتجه إلى الصواب على عكس  المقلد فصوابه صدفةٌ في اتجاه الخطأ، وإن تعجب فاعجب من أمة افتعلت خصومة بين طرفين هما على أتم وفاق وأحسن اتفاق، إنها الخصومة المزعومة بين العقل والنقل، فالعقل شرع من داخل والشرع عقل من خارج، فأُقيلت الأمة من الحياة بعد أن أقالت العقل من وظائفه فوقعت تحت قيادة الرغبة والحاجة، فيقال لها: إن العقل هنا له جهة أصالة  تجعل له جهة تقديم على الشرع، نعم، ألستم تقولون بأن العقل مناط التكليف؟! فأي معنىً لهذا سوى أن العقل مقدم على الشرع؟! فليس التقديم هنا تقديم رتبة أو أفضلية كما يسبق للأذهان بل تقديم عناية بشرط  يتوقف على تحصيله تحصيل مشروطه فالوضوء مقدم على الصلاة ولم يقل أحد بأن الوضوء أفضل من الصلاة، وكتقديم الأساس على البناء، فكما يعاب أساس من غير بناء كذلك لا يعقل بناء من غير أساس، وهذا معنى أن العقل مناط التكليف، إذا كان الأمر بهذا اليسر فمن أين أتت الخصومة؟ وهذا هو السؤال الأهم؛ لأنه سينقل الخصومة من ميدان العقل والشرع إلى ميدان النفس والأخلاق، فعندما ارتكب ابنُ آدم الأولُ أولَ جريمة له حدث خرقٌ في جدار الضمير، وعند فساد الضمائر تُخلق المعاذير، فتَحتال الطبائع السقيمة على الشرائع السليمة فتفسدها، وهذا لب النزاع وجوهر القضية، فَعلَ هذا أحبار ورهبان ( ويفعله شيوخ)، فاحتاجت البشرية إلى رسالة بعد رسالة  ورسول بعد رسول إثباتاً للحجة ودفعاً للمعاذير حتى جاء الإعلان الأخير "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً"  وهو بيان يصرح بأهلية العقل ويستودع ثقة الله فيه، سيقول البعض: بأي عقل أثق أهو عقلي وعقلك أم عقل هذا وذاك والعقول تتفاوت؟ وهذا سؤال مراوغ هارب من الحقيقة لا مُقبلٌ عليها، فالحديث هنا عن كل عقل يصون الضمير ويُحسن التدبير فيعرف المعروف وينكر النكير ويميز بين خيرِ الخيرين وشرِّ الشرين.  إن اللبيب إذا بدا من جسمه     مرضان خطيران داوى الأخطرا عن هذا العقل نتحدث، لا عن العقل الذي يعرف الخير من الشر فقط  فهذا يحسنه من بلغ سن التمييز، ثلاثة عشر عاماً ، ولا عن العقل المتسول على قبور الأموات يطلب حلاً لمشاكل الأحياء، ولا عن عقل فقهاء ووعاظ غلب عليهم منطق الوظيفة على منطق الضمير،  فمُحمدٌ صلى الله عليه وسلم  أكمل الناس ديناً وأتمهم عقلاً يؤمر بالشورى فيستجيب، وأكثر الفقهاء يقولون بأنها مُعلمةٌ لا مُلزمةٌ مُتمحِّلين عشرات الأدلة على عدم الوجوب ساهين عن أن مبالغتهم في النفي دليل على الثبوت، وبما أن الإسلام يحترم عقل الإنسان كان من الطبيعي أن يقدر حريته فمن نقص حريةً نقص عقلاً ومن نقص عقلاً نقص ديناً ، فحرص منذ اليوم الأول على إنهاء محنة العبيد وصولاً إلى جَعْل حريتهم بأيديهم  فأوجب المكاتبة  وهي عقد على تحرير العبد مقابل قدر من المال يدفعه المكاتب لمالكه تقسيطاً "فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً" وهو تحريض للعبيد على استعمال هذا الحق وعدم التفريط فيه، فعز على بعض الفقهاء كساد تجارة العبيد  وكانت آنذاك واحدة من أهم موارد الاقتصاد، فقالوا بعدم وجوب عتق المكاتب،  هؤلاء ليسوا فقهاء بل سماسرة في سوق النخاسة، لقد وقف ابن حزم من فقهاء عصره موقفاً شريفاً معنفاً إياهم قائلاً : إن الأمر بالمكاتبة فرض وإذا قال الله لأحد: افعل، فلا يحق له أن يقول: لا أفعل، والعجيب أن ابن حزم كان من الطبقة الأرستقراطية المدلَّلة، بينما كان أكثر الفقهاء من أبناء طبقة الكادحين!!!  لست مغرماً بنبش القبور ولكن استفحال الوباء الذي يحصد الأحياء قد يتطلب علاجُه أحياناً معرفةً بتاريخ المرض وإن استدعى تشريح الجثث الهامدة.