12 سبتمبر 2025

تسجيل

سما.. والقرآن

01 يونيو 2019

كانت لا ترى أنها يمكن أن تحفظ أكثر من الجزء الأخير من المصحف؛ ربما لصغر سنها، وربما لطول سور الأجزاء الأخرى من كتاب الله بالنسبة لها! لكنها تجاوزت هذه العقدة بعد أن حفظت الذاريات، السورة الأولى في الجزء السابع والعشرين من كتاب الله، وفتح الله عليها فحفظت ما تلاها من سور، وكانت تستقبلني لدى عودتي من عملي بزهوّ وفخر على الباب وتخبرني أين وصلت في حفظها. إنها سما أصغر أولادي، الحبيبة الغالية، المؤنسة، رقيقة المشاعر، صاحبة الإيثار والمبادرة في خدمة أهل الدار. كنت فضلا عن الاستماع لحفظها أصلّي الوتر في حجرتها، وتمسك بالمصحف هي وشقيقتها الأكبر فتتابعان تلاواتي لسور الذاريات والطور والنجم، فتنامان ويكون آخر ما تسمعانه هو ما تحاولان حفظه، وهي طريقة مجربة تساعد على حفظ القرآن وتمكينه. تلك الطريقة كان لها فائدة أخرى أذهلتني؛ فقد حدثتني سما في اليوم التالي بأنها لاحظت تشابها وتناغما بين هذه السور المتجاورة، طلبت منها أن تطلعني على ذلك ففتحت المصحف وأشارت إلى الآيات: "إن المتقين في جنات وعيون* آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين" (الذاريات: 15- 16). "إن المتقين في جنات ونعيم* فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم" (الطور: 17- 18). وقفنا أنا وابنتاي على آيات أخرى فيها روابط واضحة بين سور الجزء السابع والعشرين، وشعرتا بفرح غامر وهما تستخرجان معي تلك الروابط؛ ومن ذلك إشارة سورتي الذاريات والطور ومباشرة قبل الحديث عن جزاء المؤمنين إلى ندم الكافرين على تكذيبهم بالرسالة والبعث والآخرة، واتهام الرسول- صلى الله عليه وسلم - بالسحر والكذب، ورسم صورتهم الغافلة والعابثة والمكذبة في الدنيا، ثم رسم صورة لهم يوم الحساب– حيث لا ينفع الندم- وتوبيخ الله لهم وسؤالهم: هل النار التي ستعذبون بها الآن هي أيضا سحر وكذب! "قُتل الخراصون* الذين هم في غمرة ساهون* يسألون أيان يوم الدين* يوم هم على النار يُفتنون* ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون" (الذاريات: 10- 14). "فويل يومئذ للمكذبين* الذين هم في خوض يلعبون* يوم يُدعّون إلى نار جهنم دعّا* هذه النار التي كنتم بها تكذبون* أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون* اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواءٌ عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون" (الطور: 11- 16). لم تنتهِ تجربتنا بعد... ولكنني بت مقتنعا أكثر بأنه ينبغي علينا ألا نستخف بعقول صغارنا فنقرر بالنيابة عنهم أنه لا داعي لتدبر القرآن في سنهم ويكفي أن يجتهدوا في الحفظ فقط، إننا بهذا لا نصادر تفكيرهم فحسب، بل نستهين بآية تكررت في سورة القمر: "ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر" ونضرب عرض الحائط بأوامر ربنا القائل: "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها". لا نريد أن نكتفي بتخريج حُفّاظ لكتاب الله، بل نريد منهم أيضا أن يفهموا مقاصده ويتخذونه منهاج حياة. لا نريد أن نزيد عدد نسخ القرآن في مكتباتنا، بل نريد أن نكون وأطفالنا مصاحف تمشي على الأرض.