12 سبتمبر 2025

تسجيل

يا من يسلم لي على الغالي

01 مايو 2012

عجباً للذاكرة كيف تستطيع أن تغافلنا في لحظة، عندما يخالجنا شعور يجعلنا نتيقن أحيانا بأنها شاخت، وأن مشاغل الوقت ومرور الأيام قد أحكم قبضته عليها ليجعلها عاجزة على أن تأتيَ لنا بما مضى، عجبا كيف تخوننا وتباغتنا في لحظة لتثبت لنا كم هي وفية للماضي.. جلست كعادتي في كل مساء أمام التلفاز ممسكة بجهاز التحكم، ووجدتني حائرة بين الكم الهائل من البرامج والأخبار والأفلام، وكالعادة ظللت أتابع مقتطفات مما يشدني من كل منها، إلى إن استوقفتني إحدى القنوات التي تبث أغنية (يا من يسلم لي على الغالي.. وهي أغنية من الأغنيات الخليجية القديمة، ووجدت نفسي قد رسوت عليها، وأناخت ذاكرتي ركابها عندها، وأنهت علاقتي بجهاز التحكم، لتغوص ذاكرتي مع الغالين، لأرى مشهداً قديماً لجهاز الراديو الذي كان يلازم يد أمي إن كانت في غرفتها أو إن ذهبت إلى المطبخ، ولأسمع هذه الأغنية بوضوح وأنا صغيرة ألعب بجانب أمي، بينما تنطلق هذه الأغنية، وأمي منهمكة ترتب أغراضها في غرفتها. وعادت بي الأغنية وكلماتها لتذكرني بالكثير من الغالين الذين رحلوا، لتعيد لي مشهد سجادة خضراء فرشتها جدتي بجانب الحائط في المكان الذي يأتيه الظل والهواء في ساحة منزلنا القديم، ورأيت أمي وأبي وجدتي وهم يستمتعون بارتشاف القهوة وسمعت صوت ارتطام الفناجيل، بينما هذه الأغنية تصدح من جهاز الراديو الذي يتوسطهم على السجادة الخضراء. وبينما لا تزال الأغنية أمامي تبث على الشاشة، ومع أنني لم أستطع أن أراها بوضوح لأن دموعي التي انحدرت غزيرة حالت دون ذلك، إلا أنها أعادت وجوه حينا القديم إلى ذاكرتي، جيراننا، وصديقات الحي القدامى، واجتماع جاراتنا مع أمي وجدتي في فترة الضحى، وجارتنا التي كانت تبكي عند سماع هذه الأغنية ابنها الغالي الذي أخذه والده منها ورحل. ومن أهم ما أصرت ذاكرتي على أن تعيده، هو صورة هذه الأغنية على التلفاز آنذاك، حين تأتي أحيانا مشوشة جداً بسبب الطقس الذي يستلزم منا الصعود إلى سطح المنزل كي نحرك جهاز الإيريال يمنة ويسرة، بينما هناك منا من يراقب وضوح البث من الأسفل، وما كان يحدث دائما أن تنتهي الأغنية دون أن يستمتع الجميع برؤيتها بوضوح. فمن المؤسف أنه عندما عادت تلك الأغنية القديمة لتبث الآن بوضوح الصوت ونقاء الصورة، كان كثير من الغالين قد رحلوا. ولم نعد نملك إلا ذكراهم، وأن نعيد تلك الأغنية داخلنا ونقول، من كل قلوبنا: (يا من يسلم لي على الغالي، ويجيب لي منه مراسيله).. انتبهت إلى أن الأغنية قد انتهت، وعدت أبحث عن جهاز التحكم من جديد، وعادت أصابعي لتتنقل بين القنوات، وعادت ذاكرتي لتتظاهر بأنها قد هدأت، وبأنها لن تأتي بالذكرى والدموع ثانية، وعادت مشكلتي وهي أنني ما عدت أثق في ذاكرتي، فما زال داخلي يردد (يا من يسلم لي على الغالي).