11 سبتمبر 2025
تسجيلعبر الكلاسيكيات العبرانية التي حرص مؤدلجوها على رسمها بعناية خلال القرنيين الماضيين، يعرض كتاب (تلمود العم سام: الأساطير العبرية التي تأسست عليها أمريكا).. (فكرة إسرائيل) ومولدها على أرض فلسطين مع طلائع الاحتلال البريطاني للقدس في التاسع من ديسمبر لعام 1917، وهي تتضمن المهمات الأساسية الثلاث التي لا تتحقق إلا بالعنف وحده، وهي: «احتلال بلاد الآخرين. استبدال سكانها بسكّان غرباء واستبعاد من يعصي منهم على الاستبدال. استبدال ثقافتها وتاريخها بثقافة المحتلين الغرباء وتاريخهم». كانت هذه الفكرة التي محقتها إرادة الكنعانيين الأسطورية في صورتهم البدوية من أرضهم مرة تلو أخرى، قد ألهبت مخيلة الحجاج الإنجليز قبل غزوهم القارة الأمريكية أواخر القرن السادس عشر! فمدينة (كايب كود) التي أصبحت فيما بعد (نيو إنجلاند-إنجلترا الجديدة) قد أطلق عليها أولئك القديسون الذين تسمّوا بـ (المستعبرين) قبل إبحارهم نحوها بـ (كنعان الجديدة)، أو بتخصيص أدق (كنعان الإنجليزية) بل و(إسرائيل الله الجديدة) و(أرض الميعاد)، وقد اعتبروا أنفسهم الورثة الحقيقيين لليهود الذين تخلو عن جوهر رسالتهم المتمثلة في (فكرة إسرائيل)، فما عاد من (شعب مختار) يحمل رايتها وهو يمجّد الإله سواهم، وهو الشعب الأبيض المتحضّر الديمقراطي الذي نصّب عرشه فوق مقبرة جماعية لهنود حمر ينتمون لشعب بربري إرهابي منحط.. كما يؤكد المؤلف في مقدمة كتابه. والمؤلف هو د. منير العكش، أستاذ الإنسانيات واللغات الحديثة في جامعة سفُك الأمريكية، والذي أصدر العديد من المؤلفات باللغتين العربية والإنجليزية، إضافة إلى مشاركته في إدارة أحد أبرز مراكز الأبحاث العربية في الولايات المتحدة الأمريكية. ويُذكر عنه تكريس جهوده في دراسة تاريخ الهنود الحمر وثقافتهم منذ وصوله، وقد حصل على (وسام أوروبا) من البرلمان الأوروبي تكريماً لجهوده في مشروع حوار الحضارات العالمي. وككاتب ومفكر ومؤرخ، فإنه «سوري بالمولد.. فلسطيني بالاختيار» كما يحب أن يُعرف. إن هذه النسخة الإنجليزية من (فكرة إسرائيل) قد لازمت التاريخ الأمريكي قبل ولادة الأب الروحي للصهيونية العالمية (تيودور هرتزل) بأكثر من ثلاثة قرون، وهي التي تبنّاها -إلى جانب اللاهوتيين في صيغتها المقدّسة- العلمانيون فيما يُعرف بالدين المدني، وهو الذي كان يعبّر عن «تاريخ القناعة الراسخة بأن الأمريكيين هم الإسرائيليون فعلاً وشعب الله حقاً»، وذلك عندما تلبّست (فكرة إسرائيل) جوهر (فكرة أمريكا) وأصبح من المسلمّات، حسب رأي عالم الأديان الأمريكي كونراد «أن الأمة الأمريكية أقرب إلى الإسرائيليين الأوائل من أي شعب آخر على وجه الأرض. لهذا شاعت تسمية (أمريكا الإسرائيلية) على بلادنا». ولأن الأرض، أي أرض، لا يفرّط بها أبناؤها، فقد كانت لتلك الفكرة المزدوجة أن تقدّس طقوس العنف، حيث إن «كل بلاغة العنف الأمريكية كانت وما تزال تستمد استعاراتها من أدبيات (فكرة إسرائيل) وقصصها المقدسة وأنماط سلوك أبطالها». ففي الخطبة التي ألقاها «أحد أبرز أنبياء أمريكا الإسرائيلية» أمام كتيبة الجنود المتوجهة لغزو الهنود، استعارات تنفخ الروح في الأساطير العبرانية وتسقط المعنى الإسرائيلي على أمريكا، فما أولئك الجنود سوى «بني إسرائيل في مواجهة العماليق» وما عليهم كأبناء إسرائيل الجدد «إلا أن ينقضّوا على أعدائهم بالطريقة التي انقض بها العبرانيون على أعدائهم العماليق! فليُسحقوا كغبار تذروه الريح، وليُسكنوا مثل الوسخ في الشوارع، إلى أن يبادوا فلا يبقى منهم أثر». وهكذا كانت أخلاق العنف التي اعتنقتها (فكرة أمريكا) في حرب الإبادة التي شنّتها على الهنود الحمر، كما تحلّت بها من قبل (فكرة إسرائيل) التاريخية. غير أن لهذا العنف بُعدا مقدّسا يبيح قتل الهنود وإخضاعهم وسلب أرضهم وأرض آبائهم، وذلك من جانبين «تارة لأنهم عماليق أو عمونيون أو كنعانيون أوصت السماء بقتلهم أو تشتيت شملهم حتى يتم أمر الله بتأسيس إسرائيل الجديدة، وتارة لأن إبادة الرجال والنساء والأطفال وقتل المواشي وتدمير المدن وتقويض المعالم الثقافية لازم للحفاظ على نقاء شعب الله». وكم تتقاطع هذه التبريرات مع ما لفّقه الصليبيون من أعذار لشن حملاتهم في القرون الوسطى، والتي استعذبها الإنجليز وتساموا في جرائم القتل والنهب والإبادة ضد الهنود الحمر إلى «مرتبة العبادة». قدمت (فكرة إسرائيل) للشعب الإنجليزي المختار ما يحتاجه من منظومة أخلاقية متكاملة لاجتياح مجاهل القارة الأمريكية وإفراغها من شعبها الأصيل، وكانت (المجاهل) حينها تُعرّف بـ «كل أرض لا يسكنها إنسان أبيض»، فضلاً عن إيمانهم التام «بأن الله يحارب معهم» والذي انضم من قبل مع ميليشيات المستعمرين الأوائل «وأرسل الأوبئة رحمة منه لقطع دابر الهنود وإفراغ الأرض للإنجليز.. وهو الذي يزور البيت الأبيض من آن لآن ليكلم الرؤساء ويأمرهم بتحرير هذا البلد او ذاك». ومع هذه القناعة التي ميّز بها إله الإنجليز الخبيث من الطيب، ورسم بهم الحد الفاصل «بينه وبين أولياء الشيطان»، فقد «تحولت كل مجاهل الأرض المرشحة للمصير الكنعاني إلى ممالك شر لا بد من تدميرها»، وأصبح «حق الحرب» الذي منح الإله شعبه الأنجلوسكسوني، تفويضاً سامياً لاجتياح تلك المجاهل، وكأمانة في أعناقهم يعيدون بها صياغة العالم.