13 سبتمبر 2025
تسجيلتتردد كثيرا على أسماعنا وأبصارنا، عبارة: القرون الوسطى. فإذا توقفنا وأمعنا النظر، وأرهفنا السمع، ألفيناها تعني الفترة الزمنية الممتدة بين عامي ٤٥٠ ميلادية، و١٤٥٣ ميلادية. ويعني لفظ «القرون الوسطى»، عند العجم، ومن تبعهم من العرب والمسلمين، عصر الظلام والتخلف والانحطاط !. فإذا دققت ومحصت، تجد العجب، أن هذه الفترة تمثل عصور ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، إبان إشراق أنوارها على الدنيا، التي كانت مظلمة حقا، وكانت متخلفة حقيقة، ومنحطة واقعا. ولكن لماذا يطلق هؤلاء العجم، ومن سايرهم من أبناء العرب والمسلمين، هذا الوصف غير الدقيق، على هذه الفترة الزاهرة، من عمر الإنسانية؟ أتراه خطأ متعمدا، أم مغالطة تاريخية؟! وقد نبه المفكر الجزائري المسلم، مالك بن نبي، الفيلسوف الفرنسي الوجودي، روجيه غارودي، حين لقيه بباريس عام ١٩٤٧ ميلادية، في ثنايا رده على سؤال غارودي له: ما سبب استمرار الحضارة الغربية في حين أن الحضارة الإسلامية قد توقفت؟ فكان رد مالك بن نبي: إن حضارة الإسلام لم تتوقف في الحقيقة، ولكنها غُيِّبت عن العقل الغربي. ذلك أن الإنسان الغربي يدرس - كان ولا يزال إلى الآن، لحد ما، أن الحضارة الإنسانية بدأت في أثينا، واستمرت ستة قرون، إلى أن وصلت إلى روما، وانتهت في القرن الخامس الميلادي (٤٥٠ ميلادية)، ثم غابت عن الشهود، حتى عام ١٤٥٣ ميلادية. والغربيون يعتبرون ما بين ٤٥٠ ميلادية و١٤٥٣ ميلادية، فراغا في التاريخ، ويسمونه «القرون الوسطى»، ويردده وراءهم كالببغاوات، تلاميذهم من أبناء العرب والمسلمين، بتغافل من الأولين، وغفلة تامة من الآخرين، الذين لم يعوا، أن هذه الفترة بالضبط، هي الفترة التي نشأت، وازدهرت فيها، الحضارة العربية الإسلامية! فلو عزلنا هذه الفترة، فترة قيام وازدهار الحضارة العربية الإسلامية، الفاصلة بين حضارتي أثينا وروما، من جانب، والحضارة الغربية الراهنة، من جانب آخر، لجعلنا هذه الحضارة الغربية الماثلة، قائمة على غير أساس! إذ هل بالإمكان أن تقوم الحضارة على العبث؟! وأقر غارودي بهذا «الثقب المعرفي»، في الإنسان الغربي، حين كتب وصيته الفلسفية بعد ذلك، عام ١٩٨٥ ميلادية، أي بعد ثمانية وثلاثين عاما، من سؤاله بن نبي، وإجابة بن نبيله ! تلك الوصية الفلسفية، التي سماها «مذكرات القرن العشرين»، حيث يقول في الفصل الأول منها: «أنهيت دراستي الفلسفية، وحصلت على كل الدرجات: الليسانس، الأستاذية، دكتوراة الدولة، مع بقائي في جهل مطبق، بالفلسفات غير الغربية». فكأن ما قاله بن نبي، إجابة عن سؤال غارودي، عام ١٩٤٧ ميلادية، مثل سدا لـ «الثقب المعرفي»، في رأس غارودي ! فظل يدير هذه المسألة في عقله، بل بدأ عقله يمتلئ، شيئا فشيئا بالإسلام، إلى أن فاض بنطق الشهادتين، عام ١٩٨٢ ميلادية. وما فعله بن نبي مع غارودي، الأوروبي المسيحي الوجودي، واجب فعله مع أبناء العرب والمسلمين، الذين هاموا في براري الحضارة الغربية المسيحية المتوحشة، دون أن يعلموا، ولو للحظة واحدة، أن ما لقنوهم إياه، من لفظ «القرون الوسطى»، مرادفا للتخلف والظلام والانحطاط، مقرونا بأمتهم العربية الإسلامية، إنما يصدق عليهم هم، وعلى تاريخهم الحضاري، ذلك الذي سماه المفكر الجزائري المسلم، مالك بن نبي: «الثقب المعرفي» في رؤوس الأناسي الأوروبيين، ويرمون به زورا وبهتانا الحضارة العربية الإسلامية، ويصدق عليهم قول القائل: رمتني بدائها وانسلت.