14 سبتمبر 2025
تسجيلبدأ عرض الشريط السينمائي الذي أنتجته شركة سوني (الاستجواب الصحفي القاتل) في آلاف قاعات العرض في المدن الأمريكية والأوروبية كما تم تحميله على الشبكة إلا أن الإفراج عن الشريط تم بقرار سياسي من الرئيس أوباما وعلى أثر خطاب خصصه رئيس الولايات المتحدة لهذا الأمر. الطفيلي التافه والأمر وما فيه أن سيناريو مثيرا وضعه المنتج (سيث روجن) في شكل كوميدي يحكي قصة خيالية لعملية اغتيال رئيس جمهورية كوريا الشمالية (كيم جونغ أون) من قبل وكالة الاستخبارات الأمريكية (سي أي أي) التي جندت عونين من أعوانها ليمثلا دور صحفيين من قناة فضائية يطلبان موعدا مع الرئيس الكوري في العاصمة (بيونغ يانغ) لإجراء استجواب إعلامي للرئيس لكن الهدف ليس الاستجواب الإعلامي بل اغتيال (كيم جونغ أون) لأنه يهدد المصالح العليا للولايات المتحدة بامتلاكه السلاح النووي وإمكانية استعماله ضد حليفتها كوريا الجنوبية أو اليابان أو واشنطن ذاتها! تماما كما حدث مع شاه مسعود في أفغانستان، هذه القصة تشكل نوعا من أنواع السينما الخيالية لكن لعرض أشخاص حقيقيين والقصة موضوعة لجلب الجمهور بتمويل كبير لإنتاج الشريط لكن بدافع الربح الوفير بلا شك ولم تسكت كوريا الشمالية عما سمته عملا عدوانيا يستهدف رئيس البلاد وأمن الدولة فاحتجت بقوة ويبدو أن الكوريين ردوا الفعل بسرعة حيث هجم (الهاكرز) الكوريون على مواقع شركة (سوني) الإلكترونية وخربوها وهددوا القاعات التي ستعرض الشريط بالويل والثبور وعظائم الأمور وبالطبع فالكوريون الشماليون ليسوا كبعض المسلمين الذين يبتلعون الأفاعي الأمريكية في حين لم تبتلع (بيونغ يانغ) خنفساء واشنطن! أما حديثي عن هذا الحدث العارض فلأقول إن رئيس الولايات المتحدة بفخامة قدره يلقي خطابا ويأمر باتخاذ إجراءات لمجرد زعل العاصمة الكورية عن شريط سينمائي بينما كان موقفه ـ خلال وبعد العدوان الدموي على قطاع غزة وأهلها وقتل أطفاله ـ لا المتفرج فقط بل المبرر للعدوان وأمريكا هنا ليست دولة كغيرها من الدول التي يمكن تبرير موقفها الجائر أو المنحاز أو المتفرج لأن واشنطن هي الدولة التي اختارت منذ 1993 أن تكون الراعية لعملية ما سمي بالسلام في الشرق الأوسط ولعل القراء الكرام يتذكرون ذلك المشهد التاريخي الممسرح الذي تم إخراجه وترتيبه في حديقة البيت الأبيض عشية 13 سبتمبر 1993 وحضره ياسر عرفات الذي وثق باسم شعبه في الوساطة الأمريكية وحضره إسحاق رابين رئيس حكومة إسرائيل والملك الحسين والرئيس مبارك ورعاه الرئيس الأمريكي كلينتون وخلاله تمت عملية المصافحة بين عرفات ورابين تحت تصفيق الحاضرين والمجتمع الدولي وأعطيت في ذلك اليوم إشارة الانطلاق للشروع في اتفاقيات أوسلو ثم مدريد ثم جنيف ثم شرم الشيخ، ولكم تعاقب وزراء خارجيتها على رعي المفاوضات من وارن كريستوفر إلى كولن باول إلى كندوليزا رايس إلى هيلاري كلينتون وصولا إلى الوزير الراهن جون كيري صاحب الجولات المكوكية التي تذكرنا بجولات سلفه هنري كيسنجر في السبعينيات بين القاهرة وتل أبيب. فلواشنطن التزامات سياسية ودبلوماسية بل أخلاقية تجاه شعب فلسطين وتجاه ما تسميه بأمن إسرائيل وبالطبع فإن تلك الالتزامات تفرض العدل في التعامل مع الطرفين اللذين يتصارعان منذ سبعين عاما لا صراع قوى متساوية بل صراع الجلاد مع الضحية وصراع الظالم مع المظلوم وصراع المعتدي على المعتدى عليه، وفي يوم من أيام الكفاح التحريري الفلسطيني وثق الزعيم ياسر عرفات في أمريكا كما تعلمون وباسم شعبه اختار طريقا قدموها له طريق السلام فترك جانب البندقية ورفع غصن الزيتون وتعلمون أيضا أن الجيش الإسرائيلي لم يتوقف يوما عن قطع أشجار الزيتون في الأرض المحتلة ولم يتوقف يوما عن بناء المستوطنات مكان سهول الزيتون المقطوعة إلى أن أصيب شعب فلسطين لا باليأس فحسب بل بالقنوط وجاءت انتصاراته سياسية باهرة حين اقتنع أكثر من شعب أوروبي بعدالة ورجاحة وضرورة قيام الدولة الفلسطينية المستقلة حيث أصبحت الدولة العبرية تشبه العبء الثقيل على الدبلوماسية الأوروبية والضمائر الأوروبية فدعا نواب أكثر من برلمان أوروبي حكوماتهم للاعتراف بدولة فلسطين ضاربين عرض حائط المبكى باحتجاج إسرائيل وتنديدها. فالزمن تغير بالنسبة لهؤلاء السياسيين الأوروبيين النزهاء وقد حللوا الخارطة بذكاء وحكمة لأنهم يتحملون أمانة أمن شعوبهم وهذا الأمن بات مهددا بممارسات إسرائيلية طائشة إلا واشنطن بقيت فريدة في موقف ظل يتراوح بين التأييد الكامل وتأبيد الاحتلال وبين نوع من التبرير لكل ممارسات إسرائيل مما أضر بعلاقات واشنطن بالشعوب المسلمة التي أصبح مصيرها بأيديها بعد صحوة الحريات. لكن اللافت للنظر والباعث على الحيرة ليس لدى الأمة الإسلامية فحسب بل لدى جزء عريض من الرأي العام الأمريكي وكذلك لدى واحد وعشرين عضوا جمهوريا في الكونجرس هو هذا الانشغال الرئاسي الطارئ والمفاجئ بقضية (حرية التعبير) حول شريط يتناول أشخاصا حقيقيين ورئيس دولة لا يهم إن اتفقنا معه أو اختلفنا لأن شعب كوريا الشمالية قبل به وزكاه كما قبل منذ عقود بأبيه وجده من أسرة (كيم) ولا يهم أن تصنفه واشنطن ضمن قائمة الدكتاتوريين المستبدين ثم ألم تصنف الولايات المتحدة جمهورية كوبا ضمن الدكتاتوريات العدوة وضربت حولها حصارا بحريا واقتصاديا على مدى خمسين عاما ثم ألم تحارب الولايات المتحدة جمهورية فيتنام الشعبية عقدا ونصف من الزمن وألقت طائراتها المهاجمة قنابل النابلم الحارقة على سهول وغابات الفيتنام ثم انهزم الجيش الأمريكي سنة 1974 وتوحد شطرا فيتنام إلى آخر قائمة الأعداء المفترضين لواشنطن الذين من بينهم العراق وسوريا وليبيا وهذه الدول تحملت هجمات حلف الناتو بطريقة أو بأخرى بدعوى جلب الديمقراطية بالقوة لهذه الشعوب واليوم نكتشف أن الديمقراطية لم تشرف بل حلت بنا مصيبة الحروب الأهلية! إنني حين أعدد الإخفاقات الأمريكية في السياسات الخارجية فمن أجل إيقاظ الوعي العربي بالمفارقات العجيبة التي تجعل الرئيس أوباما يتحرك لرد الفعل ضد كوريا الشمالية بالقول طبعا لا بالفعل لأن (بيونغ يانغ) قوة نووية جربت قنبلتها بينما لم يحرك ساكنا إزاء عدوان إسرائيلي قتل 2500 ضحية مسلمة فلسطينية في قطاع غزة وأدركنا أن (حرية التعبير) بشريط مستفز وعدواني أهم لديه من (حرية الحياة) لشعب مضطهد ومناضل وصابر! أليس العرب مخطئين حين اتبعوا نهج السلام والرشاد في حين كان بإمكانهم الحصول على القوة النووية بعلمائهم وأموالهم كما فعل غيرهم؟ أترك لكم الجواب على ضوء ما نعيشه من مظالم!.