14 سبتمبر 2025
تسجيلفي طفولتي نشأت في حي كرموز العريق، الحافل بالقصص والحكايات ككل الأحياء الشعبية. والذي هو في الأصل جزيرة راكودا التي أمر الإسكندر الأكبر ببناء الإسكندرية، بالوصل بينها وبين جزيرة فاروس – حي الأنفوشي الآن – دق قلبي للأسف وأنا أكتب هذا لأن في حي كرموز أكبر منطقة للمقابر، هي مقابر عامود السواري، وخفت أن تصلها يد ما يسمى بالتطوير، فيتم هدمها كما يحدث في مقابر القاهرة، وهدم تاريخ عظيم طويل معها ومع من فيها. أجل. الآن نحن نخاف على الموتى أكثر مما نخاف على الأحياء، فلقد أصاب مصر ما يسمى بالكباري، التي يُقال أنها من أجل تسهيل مهمة المستثمرين في قلب مدينة كالقاهرة، بينما المصانع، إذا كانت هناك مصانع، يتم بناؤها خارج المدينة، ولن أحكي عن أعظم المصانع التي كانت على أطراف المدن، وتم هدمها من أجل اقامة عمارات ومولات، وآخرها مصنع الحديد والصلب بحلوان، الذي حين أنشئ في عهد عبد الناصر، اختيرت حلوان لأنها ضاحية على أطراف القاهرة. كون المدن ازدحمت بالبشر، لا بالمصانع من فضلك، فهذا خطأ الدولة التي لم تبن مدنا جديدة في الصحراء، محاطة بالمزارع والمصانع الصغيرة والكبيرة، ينتقل إليها الشباب يعمرونها ويعمرون البلاد. أعود إلى عم أحمد العنبسي الذي كان بقالا صغيرا، وكان رجلا مسنا يعمل معه أحد أبنائه الشباب. كان عم احمد العنبسي في أوقات الهدوء يجلس يحكي لمن حوله حكايات غريبة مبهجة. أذكر حين حدث العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 أن اجتمعنا حوله يحكي لنا بمناسبة الحرب والغارات التي حدثت على الإسكندرية، عن وقائع من الحرب العالمية الثانية، ومن بينها معركة العلمين بين قوات المحور، ألمانيا وإيطاليا، وقوات الحلفاء، إنجلترا ومن معها من الدول مثل أميركا وفرنسا، والبلاد التي تقع تحت التاج البريطاني، أو ما يعرف بالكومونويلث. حكي لنا نحن الصغار ما بين العاشرة والثانية عشرة من العمر، كيف دارت المعركة بين قائد قوات المحور، روميل الألماني من ناحية، والفيلد مارشال مونتوجمري القائد الإنجليزي من ناحية، فقال إن روميل كان بمدينة السلوم على الحدود المصرية الليبية، ومونتوجمري بالإسكندرية، وأمام كل منهما برميل مياه ينفخ فيه فتخرج منه الدبابات والمدافع والجنود تتقابل وتتقاتل. نفدت مياه روميل بسرعة من سرعة النفخ، بينما كان مونتوجمري هادئا فلم تنفد مياهه، ومن ثم استمر خروج الجنود والدبابات وتمت هزيمة روميل. طبعا كنا لا نكف عن الضحك. تمضي السنون لا أنساه، لكنه يستيقظ أمامي الآن وأنا أنظر حولي وأرى من ينفخ في المياه في السلطة، فتخرج منها القرارات التي تأتي بعكسها، في الاقتصاد والسياسة والتعليم والصحة، وتظل سابحة في فضاء الإعلام. لم أعد مقتنعا بأن أحدا يفكر، لكنه صوت عم احمد العنبسي يقول لي ارفعوا براميل المياه من أمام المسؤولين فمياهها عكرة لا يخرج منه شيء جميل. أجل المشكلة هي في البراميل التي لا أعرف كيف عرفوا بها وهم لم يقابلوا عم أحمد العنبسي، وكيف تمسكوا بها ينفخون فيها كل يوم فيتعكر الفضاء، ويقولون إننا السبب في تعكير المياه لأن الزيادة السكانية أكبر من قدرات أي أحد في السلطة على النفخ في المياه، ولا يسأل أحد كيف استفادت بلاد مثل الهند وماليزيا وسنغافورة من الزيادة السكانية. الحقيقة لا يفكر أحد في استيراد براميل من هناك، ماؤها نقي، فيردون الجميل لعم أحمد العنبسي مخترع البراميل العجيبة.