12 سبتمبر 2025

تسجيل

عندما فسد العقل

31 أغسطس 2023

تناولنا بعض أمثلة على تأثير التفلسف والإرجاف في تخريب العقل العربي المسلم بجعله يستبدل الخرافة بالإيمان، ودفعه للتعلق بالشعوذات، ثم لاحقا لليأس واللامبالاة. وكانت النتيجة الحتمية أن يتخلى ذلك العقل عن المنطق السليم وبالتالي عن أهم عوامل تقدمه، العلم المادي، الذي لا تتقدم الحياة بدونه، والذي أحدث الفارق الحقيقي في نهضة الأمة. وقد رصد المفكر الإسلامي الراحل علي عزت بيجوفيتش ذلك في كتابه «عوائق النهضة الإسلامية» بقوله: «ظهر الإسلام سنة 610 م بين قبائل جاهلة بعيدة عن الحضارة، ولكن بعد 100 سنة فقط وقفت جيوش المسلمين عند أسوار باريس. فلنتأمل بركان الحياة هذا وما جرى في هذه الوثبة العملاقة، بقوة الدين والعلم فقط. لقد استوعب المسلمون علوم الشعوب الأخرى. وأثْرَوْهَا ونقلوها للآخرين، وما ذلك إلا بفضل تعاليم الإسلام. إما أن يهدم الدينُ الخرافة أو تهدم الخرافةُ الدين». وعندما فسد الدين أو أُفسد وتخلى العقل عن العلم، سادت الخرافة. وكانت الخسائر العلمية هي الضرر الأهم وراء تراجع الأمة وتخلفها. فالدماء على فداحتها لا توقف مسيرة التقدم بقدر ما تحرم الأمة من عدد من الفقهاء أو المقاتلين، يمكن تعويضهم. فقتل 70 من حفظة القرآن عند بئر معونة، واستشهاد ألوف غيرهم في الفتوحات، مثلا، لم يوقف صعود الإسلام. أما السقوط في شعوذات الإرجاف والفلسفة، والتخلي عن العلم، فكان كفيلا بهدم العقل الجمعي للأمة، ومحو منافع الحضارة، والسقوط من القمة إلى القاع. وقبل الاستفاضة في شرح أضرار الخسائر العلمية تجب الإشارة إلى أن سقوط العقل العربي المسلم في تلك الهوة السحيقة من الضلالات والصراعات الداخلية، فتح بابا آخر لشر أكبر، هو التدخل الخارجي المسلح. من ذلك الحملات الصليبية، بداية من أواخر القرن الخامس، ثم التترية أوائل القرن السابع. ولو أن الأمر وقف عند الأمراض الداخلية لربما أمكن علاجها بمرور الوقت على يد مصلح من المصلحين، لكن قدوم العدو الخارجي، عبر مراحل زمنية متتالية، وتحكمه في قدر كبير من مصائرنا، وخصوصا في القرنين الأخيرين، جعل الأمة كلها مرتهنة بل سجينة إرادة المحتل الخارجي، الذي فرض عليها التخلف، ومنعها، عبر نظم وإجراءات جائرة، من الأخذ بأسباب التقدم والنمو الحقيقي. وهذا ينطبق على دولة الإسلام في الأندلس أيضا. فعندما لاحظ العدو المتربص انشغال أهل الأندلس حكاما ومحكومين بالترف وحب الدنيا بدأ بمهاجمتهم وافتراسهم، ضمن ما سُمي حروب الاسترداد، فكانت طليطلة أول الممالك الساقطة في أيديهم عام 478 هـ، أي في نفس زمن هجوم الصليبيين على الشرق، والذين احتلوا القدس للمرة الأولى عام 492 هـ. وهنا نلحظ أن التشرذم ضرب دولة الإسلام شرقا وغربا، تزامناً، ولنفس السبب، الوهن. ففي الغرب ظهر ملوك الطوائف. وفي الشرق، استقل كل حاكم منطقة بملكه، فعليا، وإن بقيت الخلافة مجرد اسم فقط.إذن، بعدما وصل العقل العربي المسلم إلى قمة الإبداع الحضاري في القرون الأولى، وصاروخ الإسلام صاعد بكل قوته، سنجد أن آثار ضربات قوى الإرجاف المدمرة عليه ستبدأ في الظهور، في نهاية القرن الخامس، مما سيجعله يبدأ في الهبوط والتردي. كيف؟ كان الوهن قد بلغ مبلغا جعل الملوك والسلاطين يوغلون في الاغتراف من عَرَض الدنيا، فيبالغون في الترف وبناء القصور وتزيينها، واستحضار المرتزقة من أجناس أخرى، واستجلاب أجمل النساء، من كل مكان، بغض النظر عن مدى إخلاصهن أو إسلامهن، إضافة إلى الاستعانة بمساعدين وخُلصاء من غير المسلمين والمندسين. وقد سهّل ذلك تسلل الكثير من اليهود والخبثاء والمتآمرين إلى أعلى طبقات الحكم في الدولة الإسلامية. وللحديث صلة.