11 سبتمبر 2025

تسجيل

«عكس الحضارة».. أنا أسرق إذن أنا موجود !

07 أغسطس 2024

من الكتب التي تناولت صناعة الفقر من منظور تاريخي كتاب بعنوان «صناعة الفقر العالمي» للكاتبة والناشطة البريطانية تيريزا هايتر، وضعه البعض على مستوى أعمال منظري التبعية مثل أندريه جوندر فرانك، وسمير أمين. وقد صدر عام 1981، ثم في طبعة ثانية عام 1990، ليتأكد بدرجة أكبر ما توصلت إليها هايتر في الطبعة الأولى. وبعد مرور ثلاثة عقود أخرى تقريبا على صدور الطبعة الثانية، لا نجد عناء في ملاحظة أن نتائج كتاب هايتر تزداد تأكيدا بمرور الزمن. فقد ذكرت في طبعتها الأولى أن عدد الجياع في العالم كان يقدر بنحو المليار إنسان، وأنه مرشح للزيادة. وبالفعل لم يتراجع الرقم منذ ذلك الحين، بل تضاعف وفقا للحسابات الواقعية وليست التلفيقية. يؤكد ذلك تقرير حديث للبنك الدولي بأن عدد الجوعى في بلد عربي «متوسطي» يصل إلى نحو 80% من سكانه، بحساب كل أبعاد الفقر، مقارنة بتقرير رسمي سطحي يعتمد فقط معدل الدخل ويجعل النسبة 44% فقط. كما يظهر التقرير أن عدد الجوعى في العالم حتى العام الماضي، ويشمل ضحايا سوء التغذية، وصل إلى نحو 2.5 مليار إنسان. وهي زيادة يؤكد فرانسيس مورلابيه وجوزيف كولينز، في كتابهما «صناعة الجوع: خرافة الندرة‏»، أنها عملية «مصنوعة». وتوضح هايتر خلفيات ما تسميه «الانقسام العالمي العظيم» بين الدول الغنية والفقيرة. وتقول إن الشمال، شاملا أوروبا الشرقية، يضم ربع سكان العالم وأربعة أخماس دخله. والجنوب، شاملا الصين، يضم ثلاثة الأرباع الأخرى وخمس الدخل العالمي فقط. كما أن «معدلات الأجور في البلدان النامية لا تتجاوز غالباً 30% من معدلات الأجور في البلدان الأكثر ثراءً لنفس نوع العمل». فمثلا، يبلغ متوسط الدخل في معظم أنحاء العالم حوالي 2.5 دولار في اليوم، بينما متوسط الدخل اليومي للعاملين وغير العاملين في الولايات المتحدة فوق الـ 15 عامًا هو 119 دولارًا. وتقول إنه في الدول الفقيرة يموت خمس الأطفال دون الخامسة، ويعيش الملايين حياة غير آدمية، مع تزايد الفقراء والمعدمين بأعداد هائلة مكونين مجموعات ضخمة مما سماه كارل ماركس «جيش الاحتياطي الصناعي»، الذين يستغلهم الرأسماليون لخفض الأجور إلى مستويات تقترب من الكفاف أو أقل، ص 18-27. وتضيف هايتر: إن التفاوت الفادح الذي يميز عالمنا ليس طبيعياً، وإن تطور الدول الأوروبية وغيرها من دول العالم الأول مبني مباشرة على تخلف العالم الثالث، شارحة الأصول التاريخية للفجوة المهولة بين الغرب وبقية العالم والمبررات الواهية لها. تقول هايتر: إن الطفرة التي شهدتها أوروبا بدأت قبل خمسة قرون، ونتجت عن الغزو الأوروبي للعالم، وامتلاء خزائنها نتيجة النهب واستعباد البشر، والقرصنة في «العالم الجديد». وتؤكد أن الكثير مما سُجل على أنه «تجارة حرة» كان في الواقع «سرقة ونهبا». كما أن تقدم أوروبا بُني على افتراضات عنصرية وإمبريالية شوفينية، مثل خرافة التفوق الطبيعي للأوروبيين، التي كان من أبرز منظريها إيمانول كانط، بزعم أن الطقس الحار يجعل الإنسان غير الأوروبي كسولًا، وذلك لتبرير ما سموه «عبء الرجل الأبيض»، ص30-35. الآن ، يجدر الأخذ في الاعتبار أن كثيرا من قساوسة وفلاسفة الغرب بداية من أرسطو وحتى جون لوك وفولتير، ومن تلاهما، كانت لهم آراء تقنن العنصرية وتؤيد استعباد البشر، ونهب ثروات الآخرين، وأنهم سعّروا الحروب من أجل ذلك- بل إن لوك وفولتير، مثلا، كانا من المستثمرين في تجارة الرق. فباعتبار ذلك يصبح من المنطقي أكثر القول إن رأس حكمتهم وفلسفتهم لم تكن «أنا أفكر إذن أنا موجود» كما قال ديكارت، ولكن أنا «أسرق إذن أنا موجود». ولو وضعنا أي فعل يدل على الشذوذ والإجرام مكان «أسرق» فستظل الجملة مفيدة أيضا . ولو أن هناك أي مدلول إيجابي لكلمة حضارة، فيجب أن يوصف ما أفرزه الغرب على مدى القرون الماضية بأنه «عكس الحضارة»، فقد أوقفوا مسيرة الحضارة الحقيقية، حضارة الإسلام، وسرقوا أهم منجزاتها وتراثها، ليزرعوا مكانها «حضارة الشيطان» التي تتجسد يوما بعد يوم، انحلالا وشذوذا تجلى بوضوح في افتتاح دورة الألعاب الأوليمبية في باريس أخيرا . وتتجلى أيضا إجراما وإرهابا في ممارسة «عولمة الإرهاب» باغتيال الشهيد إسماعيل هنية، عبر الحدود، في طهران. فاليد التي ترسم لوحات الشذوذ هي ذاتها التي تريق دماء الأبرياء هنا وهناك. كما يؤكد ذلك وجود علاقة بين هؤلاء الفلاسفة ورجال الدين، وذرياتهم المتلاحقة، وبين أعداء الإنسانية أشرت إليها من قبل، وسيأتي تفصيلها لاحقا.