11 سبتمبر 2025

تسجيل

صناعة الفقر.. جريمة على نار هادئة

24 يوليو 2024

مازلنا مع تفاصيل صناعة الفقر كَمُكَون أساسي من مكونات صناعة الكفر. تحدثنا في المقال السابق عن بعض أهم الأساليب الكلية التي يتبعها أعداء الإنسانية في تنفيذ مخططاتهم تلك. واليوم نكمل مع بعض أهم الأساليب الجزئية لصناعة الفقر، ومنها «البورصة»، والمضاربات المالية، وما يسمى (Speculators) أي المضاربين الذين يشعلون حروب العملات فيهاجمون عملة دولة ما فتنهار بين ليلة وضحاها. وكان من أكبر مجرمي هذه العملية الملياردير الراحل جورج سوروس الذي ركّع بنك انجلترا في حادثة معروفة. هؤلاء الذين وضع أساس وجودهم على ساحة الاقتصاد العالمي، الولايات المتحدة، ومَن وراءها، خلال الحرب العالمية الثانية، عندما كانوا يجهزون خططهم المالية والتنفيذية لحكم العالم بعد انتهاء الحرب. وفي هذا قصة معبرة عن خطورة المضاربة في العملات، نقدم لها باستنتاج مهم مفاده أن حكام العالم الفعليين، ومع اقتراب نهاية الحرب الثانية، كانوا قد قرروا نقل مقر حكمهم المؤقت للعالم من بريطانيا إلى الولايات المتحدة، التي كانت تتبلور وقتها كأكبر قوة على الساحة العالمية، ومعهم انتقلت كل مراكز الثقل المالي والأكاديمي والفني، إلخ..، من ضفة الأطلسي الشرقية إلى ضفته الغربية. ونعود إلى قصة المضاربات ونلخصها بأنه في يوليو 1944، اجتمعت القوى الكبرى لوضع أسس المؤسسات التي ستُستخدم لتقنين حكم العالم وابتزاز دوله ونهب ثرواتها بعد الحرب. كان ذلك في بلدة «بريتون وودز» بولاية نيوهامبشاير الأمريكية. حينها تصادم ممثل بريطانيا (القوة العظمى الغابرة) في الاجتماع وهو الخبير الاقتصادي الكبير جون مينارد كينيز مع ممثل الولايات المتحدة هاري ديكستر وايت بشأن عدد من الإجراءات التي كان من شأنها تحقيق قدر من التوازن بين الدول وحفظ حقوق الدول الأقل تقدما. وقتها حذر كينيز من أن غياب تلك الإجراءات «سيزيل السلطة من المسؤولين المنتخبين ويضعها في أيدي المستثمرين الأثرياء»، ويجعل الحكومات «رهينة» لتقلبات السوق، ويحول الاقتصاد العالمي إلى «كازينو قمار»، وهو ما حدث بالفعل، (مرشد العولمة ص 73،99،114). حينها اقترح كينيز إنشاء (Clearing Bank)، بنك مقاصة ليكون بمنزلة بنك مركزي عالمي يُمكِّن الدول من إتمام تعاملاتها التجارية بعملاتها المحلية دون الحاجة لعملة حاكمة تقاس إليها قيمة بقية العملات، والتي ستصبح الدولار الأمريكي لاحقا. وقد أحبط المندوب الأمريكي مقترحات كينيز. كما تم لاحقا إحباط مقترحات أخرى منها ما يسمى «توبين تاكس» (Tobin Tax)، وكان من شأنها تثبيت أسعار العملات والسيطرة على جشع المضاربين، بفرضها على عمليات المضاربة. وبإحباط تلك المقترحات اكتملت «الجريمة»، التي طُبخت على نار هادئة، وتحقق لأعداء الإنسانية ما أرادوا، ومهدوا الساحة لاستغلال المجرمين، ما سبَّبَ كوارث اقتصادية «متعمدة» كثيرة منذئذ، منها أزمة النمور الآسيوية ومنها الضربات التي تتعرض لها العملة التركية بين الحين والآخر، مثالا لا حصرًا. ويذكر كتاب (Dirty Dealing)، «الصفقات القذرة»، لمؤلفه بيتر ليللي، ص 109، أن السناتور كارل ليفين أعد في العام 2002 تقريرا رصد فيه خطورة ظاهرة شركات المضاربة وانضواء كل أنواع المجرمين تحتها من تجار مخدرات ودعارة وحتى سياسيين. وهناك أيضا ما يعرف باسم (Hedge Funds) أي «صناديق التحوط» وهي باختصار، وبحسب دراسة لباتريك كيلي وآخرين،2014، صناديق استثمارية ظهرت بُعيد الحرب، أعمالها محاطة بسرية تامة، قد لا تتيح حتى للمستثمرين أنفسهم معرفة طبيعة استثماراتها. ويكفي أن نعرف أن هناك الآلاف من تلك الصناديق في أنحاء العالم، ما يجعل المستثمر الطبيعي كمنافس يبدو كمن يحارب منافسا أو عدوا لا يراه، تماما مثل الشيطان الذي يحاربنا هو وقبيله من حيث لا نراهم. ويكفي أيضا لتوضيح خطورة تلك الصناديق أن نعرف أن شركة «بلاك روك» وهي إحدى الشركات التي تتحكم في جزء كبير من الاقتصاد العالمي تمتلك عددا كبيرا من تلك الصناديق. وتحت مظلة صناديق التحوط تنضوي معظم عمليات تهريب الأموال والحسابات السرية (سويسرا) والملاذات الآمنة (دول وجزر المحيط الهادي)، وأمور أخرى خطيرة، منها كروت الائتمان «مجهولة الهوية». وهناك نظام التأمين (Insurance) الذي يقوم عليه جزء كبير من الاقتصاد في أغلب دول الغرب والذي يعتبره كثيرون في كندا مثلا «أكبر عملية سرقة مقننة على وجه الأرض»، كونها عملية تفرضها الحكومات وتحميها القوانين، وتحقق أرباحا بمئات المليارات لشركات أعداء الإنسانية «الخاصة»، ولا يستفيد منها الجمهور إلا لماماً، مع أنها تخالف الشرائع السوية، في عملية مشابهة بدرجة كبيرة للإتاوات التي كان يفرضها البلطجية على الناس قديما. هناك أيضا وسيلة أخرى لصناعة الفقر لا تقل شيطانية وإجراما عن ما سبق ألا وهي حساب العمل بالساعات بدلا من الراتب الشهري، وهو ما يحرم العامل أو الموظف من كثير من الحقوق والامتيازات تبدأ من أن الساعة التي لا يعمل فيها لا يؤجر عليها، ولا تنتهي عند حرمانه من حق الإجازة السنوية المدفوعة، ومن الرعاية الطبية ومن مكافأة نهاية الخدمة المعمول بها في أي نظام توظيف إنساني عادل. وهذا يُذكِّر بتاجر البندقية، فما كان يقتطعه ذاك التاجر من جسد المدين بلا حق، يقتطعه هؤلاء، إربا إربا، من وقت الملايين بدم بارد، فلا يعدو ذلك إلا أن يكون «ربا الوقت»، وهو ما يندرج تحت ما سماه ماركس بالفعل «فائض القيمة». وخلاصة ذلك أن النظام المالي الذي يحكم العالم منذ الحرب الثانية وللآن، ولد فاسدا ومتحيزا «مع سبق الإصرار والترصد»، تحقيقا لصناعة الفقر. لكن الأخطر في صناعة الفقر ما هو قادم لا قدر الله،،، وهو تحويل كل الثروات في العالم إلى عملات معدنية بهدف تحويل أموال كل إنسان بل هو ذاته إلى «معسكر اعتقال رقمي» يتم التحكم فيه عن بعد.