29 أكتوبر 2025
تسجيللا تزال بعض الكتابات في الغرب، تطرح مسألة صدام الحضارات والثقافات بين الفينة والأخرى، فعندما تظهر مشكلة من المشاكل بين الغرب وبعض المسلمين، تتم استعادة حديث الصراع بين الحضارات (ظهور داعش كنموذج للفوبيا في الغرب)، مع أن الغالبية من المسلمين، ترفض فكر التطرف والتكفير والغلو، ومن الحق أن نقول إن بعض أفعال الغربيين، ليست هي الرؤية المسيحية للعرب والمسلمين، ولا بعض أفعال المسلمين، هي رؤية الإسلام لأصحاب الديانات السماوية الأخرى، لكن للأسف الكثير من الكتاب في الغرب يطرحون آراء مغايرة للحقيقة، بعضها للأسف أحكام مسبقة، وهدفها زيادة التوتر، وخلق الاحتقان بين الثقافات من خلال مقولات صدام الحضارات، وترويج فكرة خطر الإسلام المقبل على الغرب!! ولاشك أن الحضارات كيانات ثقافية ضمن عناصر أخرى تدخل في تركيبتها الفكرية والثقافية، لكن التمايز الحضاري والاختلاف الثقافي والديني واللغوي، لا يعني بالضرورة الصدام والصراع، إنما العناصر الأهم للصراع والتصادم المصالح السياسية والاقتصادية والإستراتيجية التي تسهم في توظيف هذه التمايزات والاختلافات المصلحية، لكن ما قيل في هذا الصدد عن الصدام الحضاري والثقافي مجرد لافتة أو غطاء لستر المصلحة أو الحاجة الأخرى غير المعلنة، بما يستتبعها من هيمنة وسيطرة وإن وضع تحت شعار الخطر القادم من الهويات والثقافات المعادية للغرب وحضاراته.. إلخ. صحيح أن بعض صناع القرار في الغرب يقولون إن الإسلام دين التسامح والسلام، لكن هذا القول لا يستقيم ودرجة العداء في وسائل الإعلام والمؤسسات الإستراتيجية في الغرب، مع أنها خفّت قليلا بالمقارنة مع أحداث 11 سبتمبر 2001، رغم أن بعض هؤلاء الذين يتهمون بالإرهاب الآن لا يمثلون الغالبية في المجتمعات العربية المسلمة، كما أشرنا آنفا، إلا أن بعض الدوائر المؤثرة في الغرب ومنذ عقود عدة، أعطتهم دعاية أكثر مما ينبغي وسلطت عليهم الأضواء بطريقة تبعث على الاستغراب، وهذا ربما يؤكد ما تطرحه بعض القوى في الغرب في إطار البحث عن عدو وإخراجه إلى السطح، لتثبت بالتالي نظرية العدو المفترض كما جاء في أطروحة "صدام الحضارات"، ثم يأتي بعد ذلك الحديث عن الخطر الإسلامي والتهديد المقبل للحضارة الغربية، وهذه ما تبرزه الأحداث المتلاحقة والمتتابعة منذ وقوع الزلزال السوفييتي وتداعياته في القرن الماضي، حتى وقت التفجيرات في نيويورك وواشنطن. وقد أكد هذا المنظور الإستراتيجي في قضية البحث عن عدو مفترض، العميد السابق لجامعة نيس الفرنسية "روبير شارفان"، عندما قال: إن رؤية صدام الحضارات تفترض حاجة بعض الدول إلى خلق عدو وهمي أو فعلي يكون بمثابة "كبش فداء" تتحدد مهمته في تبرير المتاعب الداخلية لتلك الدول والتمويه على تناقضاتها الفعلية، فقد لعبت في هذا الإطار مقولات "التهديد السوفييتي" و"الحرب الباردة" و"إمبراطورية الشر" و"مواجهة الشيوعية" دوراً مهماً في تبرير المتاعب الاقتصادية والاجتماعية التي تتخبط فيها الولايات المتحدة وأوروبا. لكن مع تفكك الاتحاد السوفييتي وبروز عهد العولمة والشمولية صار من اللازم البحث عن عدو خارجي آخر، وما لبث "مرتزقة المجموعات الصناعية والمالية الغربية" من أن عينوا هذا العدو: "إنه الشرق عموماً والإسلام على وجه الخصوص".إن التخوفات الكامنة في هذا الصدد ترى أن الأسباب الدافعة للصدام هو نمو الحضارة المعاصر نتيجة للدور المزدوج للغرب، فرغم أن الغرب في أوج قوته فهو يواجه حضارات ليست غربية، وترغب في تشكيل العالم بطرائق غير غربية، في مجال التكنولوجيا الحديثة، فهذه الرؤية التي لا تطيق الآخر، أو تقبل الاختلاف معه، رؤية أحادية في العقلية الأكاديمية في الغرب، حيث تضع الخطط والإستراتيجيات للسياسيين والقادة في الغرب، بطريقة غير عادلة، لكنها تضع ما ينبغي أن يكون عليه الغرب من المكانة وفق تلك المصالح والرغبات، حتى ولو تم التعسف والقمع والهيمنة في هذه الإستراتيجية، وإلا ماذا تعني الإشارة إلى أن الغرب سيواجه حضارات ترغب في تشكيل العالم، وعلى الغرب ألا ينام قرير العين على طرح "نهاية التاريخ وخاتمة البشر"، حيث إن تلك النظرة تستعدي الآخر وتضع التصادم قبل الحوار، وتقدم اختلال الموازين في تعاملها مع الحضارات والهويات الأخرى.أما الرؤية الأخرى لهنتنغتون فتقول إن الخصائص والفروقات أقل قابلية للتبديل وغير قابلة للحلول الوسط، وكذلك أن الحضارات تتمايز الواحدة عن الأخرى في التاريخ واللغة والثقافة والتقاليد والدين، وأن هذه الاختلافات أكبر بكثير من الاختلافات الأيديولوجية السياسية، إذ كان السؤال أيام الحرب الباردة أين نقف؟ ومع من نكون؟ أما السؤال الآن فهو من نحن؟ ومن هم؟ وبغض النظر عن المبالغة غير الدقيقة في تصوير هنتنغتون للتحالفات على أساس الفروقات والخصائص والتأثيرات الثقافية التي لا نشك في دورها في تشكيل الوعي الإنساني، إلا أنه من استقراء الواقع نجد أن هذا التصنيف لم يتحقق في الحرب العالمية الأولى، فقد تحالفت البروتستانتية في برلين مع الكاثوليكية في فيينا والإسلام في إسطنبول، وتحالفت الأرثوذكسية في روسيا مع الكاثوليكية في فرنسا، والبروتستانتية السائدة في بريطانيا، وفي الحرب العالمية الثانية تحالف الألمان واليابانيون رغم اختلاف أصولهم العرقية وعقيدتهم الدينية.وما يدحض نظرية هنتنتغتون في قضية التحالفات على الأسس الثقافية التحالف الجديد القوي بين الولايات المتحدة وباكستان في الحرب في أفغانستان، وهذا ما يجعل الافتراضات التي طرحها هنتنغتون غير متماسكة، لكنها في الواقع تبرر للغرب ما يفعله بعيداً عن الدقة والمصداقية، كما أن مقولة تضامن البلد المماثل لا يستقيم مع التحالفات التي جاءت بعد تفجيرات نيويورك وواشنطن في 11 سبتمبر 2001. ومن القضايا التي أشار إليها صاحب الأطروحة آنفة الذكر إشكالية العودة للهوية أو البحث عنها في كثير من بقاع العالم بعد انتهاء الحرب الباردة، مما أدى إلى نشوب أزمات وحروب عرقية كثيرة في العديد من القارات لم تألفها الإنسانية فترة ما قبل انتهاء الحرب الباردة، ولم يسأل هنتنغتون نفسه لماذا هذه الفروقات الثقافية؟ وما هي أسبابها الحقيقية الدفينة؟ فقضية العودة إلى الهوية الثقافية صحيحة، لكنه لم يناقش أبعادها وكوامنها الداخلية المستعصية، لماذا اختلفت الأسئلة بهذه الحدة، من نحن؟ ومن هم؟ ولماذا صاحبتها نزاعات دموية كثيرة، ولا تزال نارها تحت الرماد؟ لقد طرح هنتنغتون الوصفة دون أن يشخص الحالة ومسبباتها أو كيفية علاجها.فالشعور بالهوية والاعتزاز بالثقافة الذاتية عند الكثير من شعوب العالم بعد انتهاء الحرب الباردة، هما مشاعر دفينة وكامنة في الذاكرة الإنسانية، لكنها محبوسة بسبب القمع والتهميش، ومعظم هذه الإشكالية كان سببها الغرب نفسه، بشقيه الرأسمالي والاشتراكي آنذاك، عندما تم تهميش الكثير من الشعوب والأقليات التي حكمت بعد انتهاء الحربين الكونيتين، إلى جانب غياب العدل والمساواة عندما تم التعاطي مع مطالبها، وحرمانها الكثير من حقوقها الذاتية والإنسانية، وما حصل بعد انهيار المعسكر الشرقي من تمزق وفوضى سياسية كان جزءاً من هذه الإشكالية، إلى جانب أن الكثير من اتفاقات الحدود التي رسمت في العالم كانت نتيجة من نتائج الحرب واتفاقات الإذعان لا التوافق والتفاوض العادل.والقضية الأهم أن تنظر الإدارة الأمريكية النظرة العادلة إلى الأحداث، وعدم الزج بخلافها مع القاعدة أو، أو النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية، أو إيران، أو غيرهما، إلى خلافها مع الإسلام نفسه، وإلا أصبحنا ندفع بتفاقم الصراعات والتوترات وربما حروب الحضارات تتحقق فعلا بسبب الأحكام المسبقة، والحاجة إلى عدو قائم.