15 سبتمبر 2025

تسجيل

عصر الهجرات المليونية في زمن الأزمات الدولية

31 مايو 2016

أصبحت الهجرات المليونية اليوم، من الجنوب المتأزم إلى الشمال الغافل، هي التي تفرض التحولات الكبرى مثل الذي جرى الأسبوع الماضي في انتخابات النمسا، حيث وصل حزب اليمين المتطرف إلى حوالي 50% من الأصوات، كما تفرض التغير المثير في العلاقات الدولية كالذي حدث بين تركيا والاتحاد الأوروبي أو عمليات إنقاذ في البحر نفذتها البحرية الإيطالية، والتي أسفرت عن إنقاذ 14000 مهاجر وغرق 3000 خلال الثلاثة أشهر الأخيرة ثم ما يجري هذه الأيام من أحداث دموية في الفلوجة بعد حلب تمزق ما تبقى من أمن الشرق الأوسط، وكل هذه المصائب تطرح ملف الهجرات العملاقة المرتبط تماما بالصراعات والفتن وتدخلات القوى الإقليمية والدولية في شؤون المتصارعين من أجل تقاسم أفضل للغنائم الجيوستراتيجية والاقتصادية، حينما تهدأ المدافع وتحط الطائرات المقاتلة وتفرض القوى الغالبة على القوى المغلوبة واقعا جديدا بعد تنفيذ مخططات التقسيمات المرغوبة وفرض الاتفاقات المطلوبة بين الأطراف. ولعل ما غاب عن مهندسي الشرق الأوسط الجديد في التسعينيات هو أن معضلة كبرى معقدة ستطرأ على مسرح اللعبة الدولية وسيعجز الجميع عن حلها ألا وهي مأساة الهجرات الكبرى التي بلغت المليون مشرد ضاربين في أرض الاتحاد الأوروبي سنة 2015 بالإضافة إلى 3 ملايين في تركيا وحدها ومليونين بين الأردن ولبنان. فأصبح العملاقان الأمريكي والروسي يضعان في حسبانهما تلك المخاطر التي تهددهما من وراء تشرد الملايين بلا أمل والهاربين من جحيم الموت وانسداد الأفق. مرت البشرية بعصور إنسان الكهوف وإنسان القبائل وإنسان المدن ويقول علماء الجنس البشري إننا نمر منذ نشأة الحداثة بعصر الهجرات (باللاتيني: هومو دياسبوريس)، وهو عصر تميز بالمرور من هجرات الأفراد إلى هجرات العائلات إلى هجرات القبائل إلى أن وصلنا اليوم إلى هجرات الشعوب. وتبقى معضلة العلاقات الدولية في عصرنا الحاضر هي الهجرة السرية أو الهجرة غير القانونية أي تلك التي تفرضها الحروب الأهلية أو كوارث الطبيعة وقسوة المناخ وانحباس المطر وانتشار المجاعة وكلها تشجعها العولمة بنشر الصور النمطية عن المجتمعات الغنية عبر الفضائيات لتقدم للشباب المحروم أمل الوصول إلى الفردوس قاطعا البر والبحر ومجازفا بحياته من أجل حلم مستحيل. وأذكر أن هذا الملف الحارق كان محور مؤتمر عربي - أوروبي نظمته في مدينة لاهاي الهولندية مؤسسة المنتدى العربي في هولندا التي كان يرأسها بنجاح وفاعلية المثقف التونسي والوزير الحالي د. خالد شوكات (في مايو سنة 2007 إذا لم تخني الذاكرة)، فكنا بعض المفكرين عربا وأوروبيين استبقنا الأحداث كأنما استشرفنا ما سيحدث بعد سنوات قليلة وشاركت في هذا المؤتمر مع نخبة متميزة من الخبراء والناشطين الحقوقيين ورؤساء الجمعيات الأوروبية المهتمة بهذا الشأن. وكانت محاور البحث والنقاش كالتالي: السياسة الأوروبية إزاء الهجرة السرية بين المعالجتين الأمنية والتنموية وأسباب الهجرة السرية من الضفة الجنوبية إلى الضفة الشمالية للبحر المتوسط وعمل منظمات حقوق الإنسان في هذا المجال ودور منظمات المهاجرين في مقاومة هذه الظاهرة وكيف تتعامل وسائل الإعلام الأوروبية والعربية مع الهجرة السرية ثم الحلول المقترحة لمعالجة هذه المعضلة. وتناقشنا لمدة يومين حول البحوث الجيدة المقدمة لننتهي تقريبا إلى تشخيص موضوعي أمين لهذه المشكلة يمكن إيجازه في العناصر والأفكار التالية: إفلاس مبدأ ومسيرة التعاون الدولي شمال - جنوب الذي تحول من فكرة تنمية البلدان الفقيرة إلى فكرة مواصلة استغلالها ونهب ثرواتها وتهجير سواعدها وعقولها أي مرت مسيرة التعاون من مرحلة استعمار إداري وعسكري مباشر إلى مرحلة استعمار اقتصادي وثقافي خفي. ومع تفقير الشعوب الفقيرة وإثراء الشعوب الثرية تحول طموح جزء من شباب الجنوب من إرادة الحياة في أوطانهم إلى هوس الهروب منها إلى الشمال. ولا حل لملف الهجرة السرية إلا من نفس طينة السبب أي ابتكار مناهج تنموية عادلة لتوفير الأمل في الشغل للشباب خريج المدارس والجامعات لإيقاف سيل قوارب الموت. استفحلت ظاهرة تجريم الهجرة غير القانونية في القوانين الأوروبية لا كحل للمعضلة بل كطريقة سهلة وشعبوية لجلب أصوات الناخبين مما جعل الأحزاب اليمينية المتطرفة تبلغ في الدول الأوروبية معدل 30% من مجموع الجماهير الناخبة وتسن قوانين تكرس المعالجة الأمنية فقط وتساهم في خلق مناخات من كراهية العربي والمسلم والعمل على ملاحقته وطرده بكل الوسائل القمعية بتشييد الجدران وكهربة الأسلاك الشائكة وتحويل أوروبا إلى قلعة حصينة وتكثيف آليات الاعتقال الإداري الخارج عن القضاء. وسائل الإعلام الأورو - متوسطية مدعوة إلى اتباع طرق أخلاقية وواقعية لنقل حقيقة الهجرة الصعبة لأن تغطية مظاهر العيش في الغرب مغشوشة وتقود إلى تغذية الأوهام عن الجنة الموعودة.إن الدول الغربية مطالبة باحترام المواثيق والمعاهدات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان والتعاطي بوعي أخلاقي وترفع حضاري مع ملف الهجرة لضمان كرامة المهاجر بتوفير السكن والتعليم والعلاج والتأهيل المهني له ولأولاده.كما أنها مدعوة بالتنسيق مع دول الجنوب إلى مقاومة عصابات التهجير والتهريب وعدم الخلط بينها وبين المهاجرين لأن هؤلاء هم الضحايا وأولئك المتاجرون هم المجرمون.هذه بعض الخلاصات التي انتهى إليها بيان (لاهاي)، الصادر عن المؤتمر الذي سبق العصر واقترح الحلول وبقي أن تعي الحكومات والمنظمات المدنية شمالا وجنوبا والمؤسسات الأممية والدولية إلى هذا الخطر المحدق لا فقط بشباب الجنوب المهاجرين بل بأمن البحر الأبيض المتوسط وبالثقة الضرورية بين الشمال والجنوب وبالتعاون الشامل بين ضفتي البحر.