12 سبتمبر 2025

تسجيل

في مسألة التعايش وضرورته الوطنية

31 مايو 2015

في ظل التوترات والخلافات السياسية والتي يحاول المتطرفون والتكفيريون،تحويلها إلى خلافات وصراعات مذهبية وطائفية، فإن أمتنا تحتاج إلى زيادة جرعات الوعي بأهمية التعايش والتسامح، وفي ظل الإسلام وقيمه العظيمة، لذلك لابد من تأسيس فكرة التعايش والبعد عن الخلافات القديمة التي يريد البعض من المشايخ للأسف إرجاعها مرة أخرى، وهذا خلط وخطر في الوقت نفسه وجناية على المجتمعات المسلمة وكل مواطنيها.وعلى الأمة أن تعمل على تقوية أسس تقارب وزيادة التعاون والتفاهم في المقام الأول بين المواطنين، في إطار من العيش المشترك الذي يجمع المسلمين مع بعضهم البعض، ومع الأمم الأخرى التي ليس بيننا وبينهم حروب وتوترات، وهذا ما رسخه الإسلام في تعامله مع الآخر المختلف منذ العصر الأول الإسلامي،عندما أسس الرسول صلى الله عليه وسلم صحيفة المدينة، ومن هنا نرى كيفية تعامل النبي (ص) مع الآخرين المختلفين عقائدياً مع المسلمين حيث نهج عليه الصلاة والسلام نهج التسامح معهم، والقبول باختلافهم مع هؤلاء الأقوام بالمدينة، واحترم خصوصياتهم الفكرية وحقوقهم الدينية دون إكراه أو إجحاف أو إقصاء، فلم يعمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى تغيير قناعات مجتمعه جبرا، كما لم يفرض نمطا اجتماعيا عنصريا يتم فيه التفريق بين أطياف المجتمع بحسب هويتهم الدينية حين تعامله مع سكان يثرب، علماً بأنه قد كان فيهم المؤمن وغير المؤمن، والمنافق، واليهودي، ولم يعمد إلى ذلك من صحابته من الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم.هذه الأسس الإيجابية التعاقدية التي تحققت في دستور المدينة، وأرست أول نصوص حقوق المواطنة عبّرت عن فكرة مركزية " هي إنشاء مجتمع سياسي تعاقدي بين جماعتين سياسيتين وفق مبدأ التعايش والتفاهم وفق المشتركات الإنسانية، مع اختلاف الدين.. " المهاجرون والأنصار من جهة، واليهود من جهة أخرى، بإشراف وقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم. هذه الصيغة انتهت من قبل اليهود بعد وقت مبكّر من ولادتها، فغدروا بالمسلمين وتحالفوا مع قريش ضدهم، فحاربهم المسلمون وأجلوهم عن مجتمعهم ؛ مما أدى إلى نشوء عداء بينهم وبين قريش كان سببه اليهود.ولابد من التأكيد في النهاية، ولم تُلغِ الفكرة المركزية التي أنُشئت في هذه (الصحيفة)، وهي: تكوين المجتمع السياسي المتنّوع في الانتماء الديني، وإقامة دولة لهذا المجتمع على أساس الإسلام، بل إن هذا المبدأ التشريعي - السياسي الإسلامي لا يزال قائماً، ويمكن العمل به دائماً، في كل عصر، وفي نطاق أي جماعة بشرية. ولم تكتف صحيفة المدينة بوضع النصوص للالتزام بين أطراف موقعيها،بل إنها أرست مفهوما جديدا غيّرت بعض الأعراف السائدة في الجزيرة العربية التي سادت منذ مئات السنين، كما ثبتت في الوقت نفسه المناسب من تلك القيم والمثل الأعلى، والتي تتوافق مع قيم ومثل الإسلام، من أجل تأسيس دولة مدنية حضارية، فألغت تحميل القبيلة مجتمعة المسؤولية الكاملة لتصرفات فردها، وجعلت الفرد وحده المسؤول عن أعماله المخالفة للقانون، وارتكاب الآثام، من دون أن تتحمل قبيلته هذا الوزر، فنصحت الصحيفة: "إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ (يهلك) إلا نفسه وأهل بيته ".كما أقر الإسلام بالتعددية على المستوى التكويني من خلال الإقرار بسنن التعدد الإلهية قال تعالى: (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة) [ المائدة: 48 ].كما أقر سبحانه وتعالى بالتعددية على المستوى التكليفي بإقراره تعدد الشرائع، ولهذا فإن الإسلام لم يرفض تعدد الانتماء الديني في الأمة الواحدة دون أن يمس وحدة الأمة، ولذلك نجد الكثير من الآيات القرآنية تدعو إلى المشترك الإنساني بين هذه الأديان وإلى الكلمة السواء في إطار عبادة الخالق عز وجل، ونبذ الشرك، قال تعالى: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً) (آل عمران: 64).والحكمة الإلهية جعلت الأمم تختلف فيما بينها،وهذا ليس بحالة طارئة على الإنسانية أن تختلف، وإنما كما أخبرنا القرآن الكريم بأنها سنة أزلية أبدية قد فطر الله عليها جميع المخلوقات.. فلم ولن يكون الناس نمطاً واحداً أو قالباً فرداً، وإنما كانوا ولا يزالون مختلفين قال تعالى (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) (هود: 119،118).وإذا كانت الإنسانية والبشرية قد بدأت بآدم وحواء - أمة واحدة،في الدين والشريعة - فإن تحول هذه الأمة الواحدة إلى أمم قد اقتضى التعددية في شرائع الرسل بتعدد أمم الرسالات، فكانت سنة التعددية منذ فجر تاريخ الإنسان... (فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (البقرة: 213).ولذلك فإن الإسلام بمفاهيمه ومنظوره الإنساني قد أصّل مبدأ التعايش، بفضل ما يحمله من مبادئ الوحدة الإنسانية.كما جاءت في الآيات الكريمة " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم " [ سورة الحجرات، الآية 13 ]. وقوله سبحانه " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام " [ سورة النساء، الآية 1 ].و كذلك قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين " [ سورة النساء، الآية 135 ].والحقيقة أن الإرهاب والتطرف الذي يعتبر الآن قضية القضايا ومحط أنظار العالم واهتمامه وتوجسه وهواجسه له من الأسباب الكثيرة ما يجعل حصره في مسألة أو قضية واحدة فكرة هلامية وتبسيطية غير صحيحة. فالإرهاب والتطرف يتمايز في منطلقاته، وهذا التمايز يجعل هذه الظاهرة ـ الإرهاب والتطرف ـ تختلف من بلد لآخر تبعا لأسباب وعوامل عديدة ومتداخلة في الوقت نفسه. منها العامل السياسي ـوهو الأكثر بروزا ـ إلى جانب العامل الاجتماعي والديني والاقتصادي والثقافي والفكري وهكذا.فظاهرة التكفير والتطرف والغلو، ظاهرة مركبة ومعقدة ومن الأنصاف أن تكون النظرة إليها شاملة ومتوازنة ولا تقف عند عامل واحد فقط ونغض الطرف عن الأسباب الأخرى التي ربما تكون هي العامل الحاسم في هذه المشكلة أو الظاهرة التي تجتاح العالم كله وليس عالمنا العربي والإسلامي فقط. فالبعض يرجع قضية الإرهاب والتطرف إلى الجهل وقلة العلم والفهم بأمور الدين والدنيا. والبعض الآخر أيضا يراها نتيجة من نتائج الفقر والبطالة في العديد من المجتمعات العربية. والبعض الآخر أيضا يراها نتيجة من نتائج القمع السياسي والاستبداد وغياب الحرية والديمقراطية ويراها البعض الآخر مشكلة نفسية واجتماعية وأسرية.. الخ. وقد انطلق الإسلام في نظرته للمساواة من أن السلم هو العلاقة الأصيلة بين الناس. وعلى هذا الأساس بيّن الإسلام سياسته الإصلاحية فيما بين المسلمين بعضهم مع بعض، وفيما بينهم وبين غيرهم من مواطنيهم أو من الأمم المختلفة. وقد كان غير المسلمين إذا احتفظوا (بحالة السلم فهم والمسلمون في نظر الإسلام إخوان في الإنسانية كما يقول بعض العلماء، يتعاونون على خيرها العام، ولكل دينه يدعو إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، فما بالنا بالمسلمين الذي يجمعنا الإيمان بالقرآن والسنة النبوية.وهذا ما نأمله من العلماء والدعاة بأن يركزا على أهمية التقارب والوئام وغرس ما يجمع الأمة،وليس ما يفرقها.