14 سبتمبر 2025
تسجيلأملي العميق في أن تنصف حكومات الربيع العربي الثقافة العربية عن طريق حفظ لغتها وتأمين مبدعيها وعلى الأقل نعود إلى تقاليد الخلفاء المسلمين الذين كانوا يقربون العلماء والأدباء (لا المنافقين والمطبلين) في بلاطهم ويعفونهم من طلب الرزق بعمل مرهق فكانت للفكر العربي صولات وجولات وانتقل إلى العالمية وأشعة شمس العرب والإسلام على الغرب. دعيت منذ أيام قلائل إلى قصر القبة (غير قصر القبة المصري) الواقع على ضفاف نهر السين بشارع كي كونتي بباريس، وهو مقر الأكاديمية الفرنسية للغة والآداب والعلوم، المسماة بمجمع الخالدين، أي أن الأدباء والعلماء وكبار السياسيين الذين ينتخبون لعضويتها يظلون هناك مدى الحياة وتفرغهم الدولة الفرنسية لخدمة الثقافة الفرنسية ولغتها وحضارتها وضمان إشعاعها في الخارج ودوام تأصيلها في الداخل. وهذه الأكاديمية العريقة موجودة بباريس منذ أسسها الوزير الكاردينال ريشوليو عام 1635 في عهد الملك لويس الثالث عشر، وتداول عليها منذ ذلك التاريخ مئات العظماء الذين أدوا للثقافة الفرنسية أجل الخدمات وقدموا أفضل الأعمال. والدولة الفرنسية الممثلة لإرادة الشعب الفرنسي تصرف لهم رواتب توازي رواتب الوزراء إلى أن يتوفاهم الله وتكرمهم في حياتهم بالتبجيل والتقدير وتكرم ذكراهم إذا رحلوا عن هذه الدنيا بالدرس وإحياء المناسبات والتمجيد. ثم إن عضوية الأكاديمية تحظى بالتشريف الذي تستحقه هذه المؤسسة الكبرى، فينتخب العضو الجديد في كرسي العضو الذي مات، ويلقي خطاب الدخول للأكاديمية ليستعرض مآثر ومناقب الذي سبقه ويشيد بجهوده ومساهماته في الأدب والعلم، ثم إن القادم يرتدي ما يسمى هنا بالكسوة الخضراء وهي الزي الرسمي للشخصيات التي تحتل مقاعد المؤسسة تحت القبة المذهبة، ويمتشق كل منهم السيف التقليدي المرصع بالحجر الكريم، ثم ينطلق في خدمة وطنه بما يراه من جليل الأعمال وطيب الأفكار وسديد النصح لأهل السياسة وأصحاب الأمر في أعلى مناصب الدولة. وكانت الدعوة لحضور مراسم قبول الرئيس الأسبق للجمهورية الفرنسية فاليري جيسكار دستان الذي انتخب آخر عضو في مجمع الخالدين لما أسداه من دفع للغة والثقافة الفرنسيتين حين كان يرأس الجمهورية فأنشأ وزارة الفرنكوفونية التي تقدمت للبرلمان بقانون معاقبة مستعملي العبارات الأجنبية (والمقصود كان الإنجليزية) في الإعلانات واليافطات في صورة توفر المصطلح الفرنسي! وتصل العقوبات حتى إلى السجن مع الغرامة في قانون كاترين تاسكا وزيرة الفرنكوفونية آنذاك وذلك لصيانة لغتهم والحفاظ على هويتهم، هذا إلى جانب قيام الرئيس جيسكار برئاسة اللجنة الأوروبية لتحرير الدستور الأوروبي وتوليه إصدار مذكراته بعد انتهاء ولايته الرئاسية عام 1981 في لغة راقية بعنوان (النفوذ والحياة)، وهذه المؤسسة العلمية لا تقتصر على الفرنسيين بل تكرم بعضويتها الكاملة غير الفرنسيين ومن بين أعضائها الشاعر السينغالي الراحل ليوبولد سيدار سنغور رئيس أول جمهورية سينغالية والكاتب البريطاني جراهام غرين والكاتب اللبناني العربي أمين معلوف والكاتبة الجزائرية أسية جبار لا فرق لديهم بين فرنسي وأعجمي إلا بخدمة الثقافة الفرنسية وإشعاعها. والحقيقة لم أذكر هذا المثال الراقي والحضاري من تكريم الأمم الحرة لمفكريها إلا حين عادت بي الذكرى إلى شهر مارس من عام 1973، حينها كنت عضوا بالهيئة المديرة لاتحاد الكتاب التونسيين وعقدنا المؤتمر الثامن للأدباء العرب في تونس، وحل بيننا ضيوف من أشهر أقطاب الفكر والأدب العربيين منهم عمالقة مصر من أمثال الشاعر صالح جودت والشاعر أحمد رامي والكاتب عزيز أباظة رحمهم الله وغيرهم. وأذكر أحاديث شيقة متعني الله بها مع هذه النخبة حول منزلة الأدب في العالم العربي، حين قال لي طيب الذكر أحمد رامي صاحب الروائع التي أنشدتها أم كلثوم: "دا أنا يا ابني لم ترحمني الإدارة إلى يوم حصولي على المعاش، حيث واصلت القيام بوظيفتي إلى بلوغ سن التقاعد". وأردت التخفيف على الشاعر العبقري فقلت له: "حتى الروائع التي كتبها قلمك الفذ وغنتها أم كلثوم لم تشفع لك". وأضاف عزيز أباظة: "ونجيب محفوظ الشيء نفسه وهو أكبر روائي عربي" (ولم يكن في ذلك العهد حصل بعد على جائزة نوبل) عاش موظفا بإحدى الوزارات ولم تعتق رقبته إلا عند التقاعد.. ولا فائدة من ذكر الأمثلة العربية لأن كلا من القراء الأفاضل لديه مثال في نكران العرب وبعض حكوماتنا للنخبة التي تصون اللغة وتحمي ثغور الحضارة وتوجه العقول وتنير الطريق هذا إذا نجا المثقفون من السجون والمنافي! ومن اللحظات المأساوية التي لن تمحى من ذاكرتي لحظة تفاجأت في سوق (ماركس دورموا) بباريس في شتاء عام 1978 بأحد أفضل كتاب ومثقفي المغرب العربي المنفيين ماسكا بمعطفه يعرضه للبيع على المارة، وقد اضطرته الحياة القاسية لإحدى المصيبتين: الصقيع أو الجوع، ولم يكن يتقن لعبة النفاق ليكتب بالمقابل ولم يكن تاجر مخدرات ليتمعش. ولله الأمر من قبل ومن بعد.