14 سبتمبر 2025

تسجيل

قصة الراهب ايولوخيو

31 مارس 2021

أكاد أجزم بأن الأغلبية الساحقة من القراء الكرام لم يسمعوا أصلاً بهذا الاسم من قبل، ولا عجب ولكن أيضاً فجهلهم باسمه هو نقطة جوهرية نريد المحافظة عليها حتى الانتهاء من قراءة المقال، لعلها تكون أبلغ في إيصال الفكرة، فتعال معي أيها القارئ الفطن اللبيب إلى رحاب التاريخ الإسلامي الواسع الفخم لننبش أخبار هذا الرجل وماذا فعل؟. ولكن قبل أن نصل إلى ذلك، لابد أولاً من توطئة سريعة لفهم أبعاد قصتنا، فنقول وبالله التوفيق: بعد أن قهر الأمير البطل عبدالرحمن الأوسط (أبو المطرّف، عبدالرحمن بن الحكم بن هشام بن عبدالرحمن الداخل)، جحافل الفايكنغ الوثنية الهمجية وأغرق 36 سفينة من أصل 50 سفينة كانت قد جاءت إلى الأندلس من أقاصي شمال أوروبا طمعا في النهب والسلب، خرجت الكتب إلى الآفاق بخبر هزيمتهم، وكتب الأمير عبدالرحمن بنفسه إلى من بطنجة من صنهاجة، يعلمهم بما كان من صنع الله فيهم، وبما أنزل فيهم من النقمة والهلكة وهروب من نجا منهم وانقطاعهم بعد اثنين وأربعين يوما فقط، وكيف قتلهم الله وأبادهم، وبدَّد عددهم وأعدادهم؛ وقتل أميرهم نقمة من الله وعذاباً، وجزاء بما كسبوا وعقاباً، كما جاء في كتاب ابن عذاري. وهناك في أحد الأقبية المغمورة في قرطبة ابتدأت بالاشتعال شرارة سوداء في قلب رجل صليبي حاقد، وهذا الحاقد هو مركز قصتنا هذا اليوم، وهو الراهب ايولوخيو أو ايلوخيوس (طبعاً نقول: صليبي ولا نقول: مسيحي، لأن الفرق بين المسيحيين والصليبيين هو نفس الفرق بين المسلمين والدواعش). أخذت شرارة الحقد هذه تمور وتعتمل في قلبه وهو يرى هذا العلو الكبير في الأرض للمسلمين ولا يستطيع فعل شيء تجاهه، وكان مما زاد أوارها وألهب سعيرها أن رأى بأم عينيه الشباب المسيحي وهو يقبل على تعلّم اللغة العربية وإعجابهم بها "اللغة فقط وليس الدين"، فكاد قلبه الأسود يتميز غيظاً وحقداً ما لبث إلا أن ظهر على شكل تصرف غريب قلما شهد له التاريخ مثيلاً، ذلك أن اتباع الراهب (الإرهابي) كانوا يخرجون بتحريض منه في عمليات استفزازية غير مسبوقة إلى أسواق المسلمين ثم يرفعون أصواتهم سباً وشتماً للإسلام والمسلمين بل ويتطاولون على نبي الهدى عليه أفضل الصلاة والسلام. طبعا كان ذلك حدثاً فريداً في عمر التاريخ - ولم يتكرر بالطبع إلا في زمن الأعاجيب هذا الذي نعيشه – فكان المسلمون يردعونهم ويحاجونهم، ولكن لأن هؤلاء الحاقدين لم يخرجوا لإقناع احد أو لدعوة أحد بل خرجوا لمجرد تنفيس الغل الأسود والحقد المريض وليشبعوا المسلمين سباً وشتماً في دناءة غير مبررة، لذلك كانت تتم محاكمتهم علنياً ثم إعدامهم إن ثبت عليهم الجرم، وبطبيعة الحال لم يكن إثبات الجرم صعباً، لأن هؤلاء الأوغاد لم يكونوا يتوقفون عن بذاءاتهم حتى خلال محاكمتهم، وكان كلما تمسك المسلمون بالمحاكمة أمعن هؤلاء بالسب والشتم والتطاول على الإسلام والمسلمين، واستمر الحال على ذلك حتى قتلوا منهم 48 صليبياً لم تنطفئ فتنتهم إلا بعد أن تم إعدام ايولوخيو نفسه فهدأت الفتنة وعاد الشعب الأندلسي بكل طوائفه ودياناته إلى التعايش بسلام كما تعودوا، وذلك بعد أن مات رأس الفتنة. والسؤال الذي تبادر إلى ذهني وأنا أقرأ خبر هذا الرجل، هو موقعه من التاريخ؟ فهل خلد ذكره؟ وانتعشت سيرته بين الأجيال المتعاقبة؟، أم ابتلعته كتب التاريخ العتيقة بين طياتها وفي زوايا حاشيتها فيمن ابتلعت من "قوارض الدهر" الذين لا ينفكون يحاولون التجلّي والصعود إلى وهم الشهرة ؟، نعم يا سيدي الفاضل فهذا الايولوخيو عبر أمام أعين التاريخ كبعوضة مرت خاطفة لم يلق لها بالاً بالضبط كما هو مرجح أنك ستنسى اسمه بمجرد انتهائك من القراءة. وكم لعمري من "ايولوخيو" أو "ايلوخيوسا" مرّوا أمام ناظرينا محاولين الصعود إلى ذات الوهم عن طريق سب الدين وشتمه، فماتوا منبوذين متوجهين إلى ركام التاريخ كأن لم يكونوا يوماً، فهل يذكّرك هذا بشيء؟ لَقَد بَلَت إِرَمٌ وَعادٌ كَيدَهُ *** وَلَقَد بَلَتهُ بَعدَ ذاكَ ثَمودُ خَلّوا ثِيابَهُمُ عَلى عَوراتِهِ *** فَهُمُ بِأَفنِيَةِ البُيوتِ هُمودُ [email protected]