07 نوفمبر 2025
تسجيلحين نتعمق في الجوهر ونتمهل كي نتأمل، فإننا نكتشف أن مدينة بورسعيد أقرب ما تكون إلى المرأة الساحرة والساخرة في آن واحد، فهي تسحر من يعشقون الجمال حيث تبهرهم بفتنتها وتحتويهم بفطنتها، كما أنها تسخر ممن يتصورون أن بإمكانهم أن يقيدوا حرية جمالها بأن يصبوه في قالب واحد وجامد، أو أن يوجهوه وفقا لنواياهم وأذواقهم، خصوصا إذا كانت تلك النوايا والأذواق سقيمة وفاسدة، ونظرا لأني واحد من عشاق بورسعيد فإني أزورها متحمسا ومتلهفا بين حين وحين، وإذا انقطعتُ عن زيارتها لأسباب عامة أو خاصة، فإني أشعر بالشوق الجارف لمرآها ولجولاتي المبتهجة فيها، ولانطلاقي منها - عبر قناة السويس - لزيارة شقيقتها الصغيرة والفاتنة- مدينة بور فؤاد. وحين ننظر إلى تمثال الحرية الشهير على امتداد العالم كله، فإن علينا أن نتذكر أن النحات الفرنسي الذي صممه لم يكن يفكر على الإطلاق في أن هذا التمثال سيقف أمام الشاطىء في نيويورك، فقد صممه لكي يُنقل فيما بعد إلى شاطىء مدينة »بورسعيد« في مصر، ليكون في المدخل الشمالي لقناة السويس قبل أن يتم افتتاحها رسمياً يوم 18 نوفمبر سنة 1869لكن المشكلة أن خديوي مصر في ذلك الزمان، وبسبب إسرافه الذي أنهك الخزانة المصرية لم يستطع أن يشتري التمثال ليوضع في بورسعيد كما كان مقرراً، فانبرى الأمريكيون- وقتها- لدفع الثمن المطلوب بالكامل ودفعة واحدة دون تقسيط مريح أو غير مريح، وهكذا أصبحت نيويورك وطنا لتمثال الحرية الذي فقد إرادته وضاعت منه حريته في اختيار مقصده ووجهته. على أي حال، فإني- من زاوية شخصية ليست فيها أية رائحة عنصرية- أقول: الحمد لله أن خديوي مصر قد استغلى ثمن التمثال، واستغنى عنه، وذلك لأن مصر- بعراقة تاريخها، شأنها في هذا شأن سائر الحضارات القديمة- مليئة بالآثار والتماثيل التي ترمز لماضيها، أما الولايات المتحدة- رغم كل جبروتها- فليس لها تاريخ عريق موغل في القدم، وطالما أنها تمتلك المال مع القوة فلماذا لا تشتري التاريخ، ولماذا لا تضع تمثال الحرية في نيويورك، ليصبح فيما بعد رمزاً أمريكياً يراه الزائرون وينبهرون به، هكذا انتصب تمثال الحرية أمام شاطئ من دفعوا ثمنه لمن صممه، ولكن كان لا بد أن ينتصب أمام شاطئ بورسعيد تمثال آخر أرخص منه في الثمن، وكان هذا التمثال للمهندس الفرنسي الذي نفذ مشروع قناة السويس وهو فرديناند ديليسبس، وقد ظل قائما إلى أن أسقطه أبناء بورسعيد بعد العدوان الثلاثي عليها وعلى مصر كلها في أكتوبر سنة 1956 وقد أتيح لي- فيما بعد- أن أشاهد ذلك التمثال وهو ملقى على أرض شاطئ بورسعيد. شهد العالم كله ببطولات أبناء بورسعيد خلال تصديهم لقوات العدوان الثلاثي: البريطاني- الفرنسي- الصهيوني، وكان الشاعر التركي الكبير ناظم حكمت واحدا ممن كتبوا بكل تقدير وإعجاب عن تلك البطولات، حيث كتب قصيدة رائعة يصور فيها استشهاد صبي بور سعيدي صغير، كان يبيع الجرائد في الشارع، فإذا بقنبلة من قنابل الغزاة تحول جسده الغض إلى أشلاء مختلطة بما كان يحمله من جرائد ذلك الصباح الدموي، أما في أعقاب نكسة يونيو- حزيران سنة 1967 فإن بورسعيد تحملت- ومعها شقيقتاها الإسماعيلية والسويس - ما تحملت من تضحيات وتبعات أثناء حرب الاستنزاف المجيدة، لكنها ظلت صامدة بكل ما يعنيه الصمود من معنى إنساني جليل، وعلى امتداد تاريخها النضالي المسطر بدماء الشهداء تظل بورسعيد المرأة الساحرة والساخرة في آن واحد، فهي تسحر من يعشقون الجمال حيث تبهرهم بفتنتها وتحتويهم بفطنتها، كما أنها تسخر ممن يتصورون أن بإمكانهم أن يقيدوا حرية جمالها بأن يصبوه في قالب واحد وجامد، ومن أعماق قلبها تتردد دون انقطاع صيحة أمير الشعراء أحمد شوقي: وللحريةِ الحمراءِ بابٌ- بكل يدٍ مضرجةٍ يُدقّ.