13 سبتمبر 2025

تسجيل

عندما لا يخرس الجبناء

30 ديسمبر 2020

تختلف الحروب الإعلامية بين زمن وآخر، لكنها تتشابه في كونها لا تخلو من سفيه يجلب النكبات على نفسه وعلى قومه، وقد وقع بين يدي مقال لأحد كتاب دول الحصار ذكرني بقصة أحد عمالقة الشعر الأموي الذي برغم كونه إعلامياً بارزاً وشاعراً فحلاً، لكنه كان سفيها أحمق جبانا يفتقر للعقل والحكمة. ففي عهد الخليفة الأموي القوي عبدالملك بن مروان كانت الفتن القبلية على أشدها ومنها تلك التي وقعت بين قيس وتغلب، وكانت الحرب فيها سجالا بين القبيلتين، ومن القيسية كان الفاتك الصنديد الجحّاف بن حكيم السلمي، ولكن الجحاف هذا كان معتزلاً للفتنة وكان من جلساء عبد الملك بن مروان. وفي أحد الأيام وبعد معركة (الثرثار)، دخل عليهم شاعر تغلب الأول غياث بن غوث المعروف بالأخطل ( وذلك لخطل في أذنيه بمعنى أنهما كانتا طويلتين وفي أعلاهما استرخاء - ويقال للرجل أذناه خطلاوان كأنهما نعلان. كما جاء في (لسان العرب لابن منظور). وكان الأخطل نصرانياً فقال مفتخراً بانتصار قومه: لَمّا رَأَونا وَالصَليبَ طالِعا... وَمارَ سَرجيسَ وَسَمّاً ناقِعا وَأَبصَروا راياتِنا لَوامِعا... كَالطَيرِ إِذ تَستَورِدُ الشَرائِعا وَالبيضَ في أَكُفِّنا القَواطِعا... خَلَّوا لَنا (الثرثار) وَالمَزارِعا وَبَلَداً بَعدُ ضِناكاً واسِعا... وَحِنطَةً طَيساً وَكَرماً يانِعا قال هذه الأبيات الوقحة الاستفزازية والجحاف موجود في المجلس لا يرد عليه، ثم إن الأخطل قال أيضا يستفز الجحاف بعد معركة الشرعبية ولقد بكى الجحاف لما أوقعت... بالشرعبية إذ رأى الأهوالا والجحاف ساكت لا يجيبه لا يريد أن ينجر لهذه الفتنة العمياء التي استمرت طويلاً بين القيسية والتغلبيين إلى أن قتل أحد سادات قيس في معركة (الحشّاك) وهو (عمير بن الحباب السلمي) الذي كان مقتله خسارة كبيرة لقبائل قيس عيلان كلها، فجاء الأخطل لعبد الملك بن مروان منشداً قصيدته المشهورة التي مطلعها: خفّ القطين فراحوا منك أو بكروا... وأزعجتهم نوىً في صرفها غِيَرُ الى أن قال: بني أُميّة َ، قدْ ناضَلْتُ دونَكُمُ... أبناءَ قومٍ، همُ آووا وهُمْ نصروا وقيس عيلان حتى أقبلوا رقصاً... فبايعوكَ جهاراً بعدما كفروا فلا هدى اللَّهُ قَيساً مِن ضَلالتِهِمْ... ولا لعاً لبني ذكوانَ إذا عثروا ضجّوا من الحرب إذا عضَّت غوارَبهمْ... وقيسُ عيلان من أخلاقها الضجرُ واستمر في قصيدته يهجوهم بهجاء ممعن في الاستفزاز والبذاءة والسفه مما نكرم من ذكره القارئ الكريم، كل هذا والجحاف مستمر في الاعراض عنه، إلى أن جاء ذات يوم ودخل هذا السفيه التافه على مجلس الخليفة بحضور الجحاف فسأله عبدالملك قائلا: أتعرف هذا يا أخطل؟ (وكأن الخليفة يريد ان يحذر الأخطل بسبب تماديه المتكرر على هذا الجبار الذي لم يتدخل في الفتنة بعد) فقال: نعم، هذا الذي أقول فيه: ألا سائل الجحاف هل هو ثائرٌ... بقتلى أصيبت من سليم وعامرِ؟ وأنشد حتى فرغ من قصيدته، وهناك وعندما بلغ الأمر مداه، تفجرت براكين الغضب في صدر الوحش الكاسر (وكما جاء في الكامل لابن الاثير) كان الجحاف يأكل رطباً لما كان الأخطل يلقي قصيدته فجعل النوى يتقافز ويتساقط من يده لشدة ما اعتصره فارتجل قائلا: بلى سوف نبكيهم بكل مهندٍ... ونبكي عميراً بالرماح الشواجر ثم التفت للأخطل والدماء تغلي في عروقه وقال: يابن النصرانية، ما ظننتك تجترئ علي بمثل هذا حتى لو كنتُ مقيداً بين يديك. فأخذت الأخطل رعدة شديدة من الخوف وقفز إلى عبد الملك وأمسك ذيله (أسفل ثوبه) وقال: هذا مقام العائذ بك، فأجاره عبد الملك، فقام الجحاف يمشى وهو يجر ثوبه ولا يعقل به لشدة غضبه وخرج من المجلس فقال عبد الملك للأخطل: ما أراك إلا جلبت على قومك شرا عظيما، ثم إن الجحاف سار بعد ذلك في نفر من قومه إلى تغلب فأوقع فيهم مقتلة عظيمة، وأسرف في القتل إسرافاً شديدا في معركة يقال لها معركة (البِشرْ) حتى شفى غليله وكان الجحاف في خضم القتال يبحث أشد البحث عن الأخطل لكنه لم يعثر عليه وقبض أحد رجال الجحاف في المعركة على الأخطل وعليه عباءة قذرة فادعى أنه عبد من عبيد تغلب وكانت العرب لا تقتل العبيد، فأطلق سراحه فاختبأ في بئر إلى ان انتهت المعركة التي كان فيها (غوث) أبو الأخطل من بين المئات من القتلى وبعد انتهاء المعركة ذهب الأخطل لعبد الملك ينشد: لقد أوقع الجحّاف بالبشر وقعة... إلى الله منها المشتكى والمعوّل الى آخر القصيدة وبعدها هرب الجحاف في قصة هروب طويلة إلى بلاد الروم ثم أخذ له الأمان من الخليفة ثم تم الصلح بين القبيلتين وانتهت الفتنة، ولكنه عاش بقية عمره في عذاب نفسي شديد وتاب إلى الله وقضى بقية حياته معتكفاً في الحرم يقاسي تأنيب ضميره إلى أن وافته المنية. وانظر معي عزيزي القارئ كيف كانت نتائج هذا الاستفزاز الوقح الذي حاول الجحاف تجنبه قدر المستطاع، لكنه كان يجد أن محاولات التغاضي لا تقابل إلا بزيادة في الاستفزاز وإمعان في السفه وتمادي في الوقاحة من ذلك السفيه الأخرق الذي لم ينته من حماقاته إلا بحد السيف. وكم - لعمري- من أخطل جبان طويل اللسان قصير اليد لازال يعيش في زماننا؟ قال الأخيطل إذ رأى راياتنا يا مار سرجس لا نريد قتالا ‏[email protected]