15 سبتمبر 2025
تسجيلتسود الاقتصاد العالمي تغيرات كبيرة وجذرية ستكون لها انعكاسات مهمة على بنية المجتمعات في العقديين القادمين، فطبيعة رأس المال في القرن الحادي والعشرين لا تشبه طبيعته في بداية النهضة الصناعية ولا منتصف القرن التاسع عشر الذي تميز بابتكارات واختراعات غيرت وجه الحياة على الأرض، كما أنها تختلف عن رأس مال القرن العشرين. الطور الحالي لرأس المال بدأت جذوره في التكون قبل ثلاثين عاما تقريبا وازدادت وتائر نموه في الأعوام الأخيرة، بحيث تشكل نظاما اقتصاديا له سمات محددة وتسيره عوامل تختلف عن القوانين التي حددها مفكرو الاقتصاد الرأسمالي الكلاسيكي "آدم سميث" و "ديفيد ريكاردو"، بل إن الطور الحالي ركن جانبا الفلسفة الاقتصادية لفترة ما بعد الكساد العظيم ومنظرها الرئيسي "جون مينارد كينز"والتي توجد التوازن المطلوب للنمو بين الأنشطة الاقتصادية للقطاعين العام والخاص. وإذا ما أخذنا على سبيل المثال أحد المفاهيم المتعارف عليها في الاقتصاد والخاصة بانخفاض الأسعار خلال فترات الركود الاقتصادي، فإننا سنجد أن هذه العلاقة لم تعد قائمة في الطور الجديد من النظام الاقتصادي الحالي، كما هو مفترض، ففي الوقت الذي يمر الاقتصاد العالمي بأزمة حقيقية ويتباطأ النمو الاقتصادي بسبب الكساد وما ينجم عنه من انخفاض في الطلب على السلع والخدمات، فإن أسعار هذه السلع والخدمات ترتفع في ظاهرة فريدة تلغي من الناحية العملية مفاهيم اقتصادية اعتمدت على مدى ثلاثمائة عام تقريبا. لقد أدت الأزمات المتعاقبة إلى انخفاض الطلب في الأسواق العالمية كما هو متوقع ومنطقي نتيجة لتراجع القدرة الشرائية للمستهلكين وارتفاع معدلات التضخم والبطالة، إلا أن الطور الحالي من النظام الرأسمالي كان له رأي آخر، فرأس المال المالي المغامر والذي يقود قاطرة الاقتصاد العالمي في الوقت الحاضر يقوم بعمليات مضاربة تؤدي إلى ارتفاع الأسعار بصورة مصطنعة ولا تعبر عن قوانين الاقتصاد الخاصة بالعرض والطلب. وفي هذا الصدد تمكن الإشارة إلى أسعار بعض السلع المهمة، فمعدلات العرض والطلب على النفط تتميز بوجود توازن يمكن من خلاله تسعير النفط بصورة متوازنة عند مستوى يتراوح ما بين 70 – 80 دولارا للبرميل كما ترغب البلدان الأعضاء في منظمة "الأوبك" إلا أن الأسعار ظلت مرتفعة بنسبة %40 فوق هذا المعدل برغبة من المضاربين والمجمع المالي العالمي والذي تفوق قدراته المالية ما يتوفر للبلدان المنتجة للنفط من إمكانات مالية وتسويقية، إذ ينطبق ذلك أيضاً على فقاعة الذهب الذي يتذبذب بصورة مستمرة وتنتقل من خلاله الثروات من خانة إلى أخرى. وإذا ما تساءلنا عن وجود تفاوت أو نقص في إمدادات المواد الغذائية في الأسواق العالمية، فإن الجواب سيكون بالنفي، فالإنتاج العالمي من هذه المواد، بما فيها الرئيسية منها، كالقمح والأرز والسكر والزيوت تفي باحتياجات الأسواق، وبالأخص في فترة الركود الحالية، إلا أن طموحات رأس المال المالي ومضارباته تؤدي إلى تجاوز القوانين والأنظمة وارتفاع الأسعار بصورة مفتعلة وتحقيق أرباح خيالية. من الواضح أن الطور الحالي للرأسمالية لا يعترف بالأنظمة السابقة لتسيير الاقتصاد، بل إنه يحاول فرض أجندته الخاصة المتميزة بالفوضى والتلاعب بأسعار السلع وخلق مشتقات مالية يمكن من خلالها الاستحواذ على مدخرات الأفراد وامتصاص ثروات البلدان الصاعدة واستثماراتها وأصولها الخارجية. لقد أتاحت مجموعة من التغيرات الجذرية في النظام الاقتصادي العالمي لرأس المال المالي الهيمنة في العلاقات الدولية وإخضاع السياسات الاقتصادية لخدمة توجهاته الرامية إلى تركيز الثروة في أيدي المجمع المالي، ففي الولايات المتحدة يملك 1% من السكان فقط أكثر من %40 من الثروة، وباعتبار الاقتصاد الأمريكي أكبر اقتصاد في العالم، فإنه من الصعب تصور مدى تركز الثروة هناك والتي ولدت المزيد من العاطلين عن العمل والمعتاشين على المساعدات الاجتماعية. وضمن هذه التغيرات العالمية تأتي مسألة انتهاء الحرب الباردة وانفراد الولايات المتحدة بقيادة العالم وتراجع تأثيرات رأس المال الصناعي والناجم عن التغيرات الهيكلية المرافقة للنقلة النوعية في تقنية المعلومات والاتصالات واقتصاد المعرفة القائم على التقنيات الحديثة. وبدلا من أن يؤدي ذلك إلى تقليص الفوارق واتساع الفئة الوسطى في المجتمع وتسخير هذه التقنيات لرفع مستويات المعيشة، فإن رأس المال المالي سخر هذه التغيرات لتعميق الفوارق وتركيز الثروات وجر فئات واسعة في المجتمعات الغربية نحو الاستثمار في الفقاعات، كفقاعة العقار والأسهم من خلال تقديم التسهيلات التمويلية التي تفوق قدراتهم المالية واستحداث مشتقات مالية بمعادلات رياضية معقدة يصعب التعامل معها بوضوح وشفافية. لذلك، فإن الطور الجديد لا يكتفي باستغلال موارد البلدان الأخرى في الأطراف كما هي الحال مع رأس المال، وإنما يستغل في الوقت نفسه وبنفس المعدل الفئات العاملة ومدخراتها في بلدان المركز المتطورة اقتصاديا، وهو ما يمنحه صفة الشمولية، حيث أتاحت له التقنيات الحديثة وسرعة إنجاز المعاملات من خلال شبكة الإنترنت المتقدمة جدا السائدة في المعاملات المالية في العالم ربط الأسواق العالمية بشبكة من الاتصالات التي فرض عليها سيطرته الكاملة، متجاوزا في ذلك الحدود القائمة وعابرا القارات بفضل عولمة الاقتصاد العالمي الذي تحول من الناحية العملية إلى سوق واحدة كبيرة وبقيادة مالية تتحرك من خلال أجهزة كمبيوتر متقدمة والتي يمكن من خلالها التحكم في الأسعار وإدارة الثروات وإنهاء المعاملات المالية والتجارية في غضون ثوان معدودة. على الجانب الآخر فرض هذا التطور النوعي للمجتمع تصنيفا آخر للفئات الاجتماعية المتضررة، ففي السابق كانت القوى العاملة هي التي تشكل المقابل المضاد لرأس المال، أما في ظل الطور الجديد، فإن فئات اجتماعية واسعة انضوت لمواجهة مبالغات رأس المال المالي واتجهت مباشرة إلى عقر دار القوة المالية المهيمنة في "وول ستريت" وحي المال في لندن وغيرها في أكثر من ألف مدينة في 92 بلدا. والمفارقة الأخرى، هي أنه لا يجمع هذه الفئات الاجتماعية فكر أو أيدلوجية معينة، كما هي الحال في السابق، وإنما اجتمعت كافة هذه الفئات المتفاوتة في أفكارها وتوجهاتها السياسية على توجيه رسالة قوية إلى تحالف المجمع المالي- السياسي مفادها ضرورة الانتباه إلى الهوة السحيقة التي يقودون المجتمع إليها من خلال إفقار هذه الفئات وضم ملايين من العاملين لصفوف البطالة وتسخير التقنيات الحديثة لزيادة الأرباح، بدلا من رفع مستويات المعيشة. والغريب في الأمر، وهو ما يحدث بصورة نادرة، أن مطالب الألف مدينة في 92 بلدا، هي نفس المطالب، وكأن العالم استيقظ فجأة ليجد أن رأس المال المالي وممثليهم من قادة المصارف ومؤسسات الاستثمار الدولية والمضاربين في البلدان الغربية قد توحدوا لإفقارهم ومصادرة مدخراتهم، مما وحد مطالبهم من "وول ستريت" في نيويورك - حيث انضم إلى المحتجين ابن ثالث أغنياء العالم الملياردير "وارن بافيت"- إلى لندن وباريس وفرانكفورت في الغرب وحتى نيوزيلندا في أقصى الشرق مرورا بالعواصم والمدن الأوروبية والإفريقية والآسيوية، حيث تركزت مطالب المحتجين على ضرورة وقف جشع رأس المال والفساد المالي وتوفير الوظائف والخدمات الاجتماعية.