14 سبتمبر 2025
تسجيلنعيش نحن العرب هذه الأيام العصيبة حالة غير مسبوقة في تاريخنا الحديث تتميز بالعجائب والغرائب فمن كان منا منذ أسابيع قليلة يتخيل مجرد تخيل بأن يوم الخميس 22 أغسطس 2013 ستهل شمسه الدافئة على سجن طرة بالقاهرة وفيه سجين نزيل اسمه محمد مرسي ثم يخرج منه سجين آخر طليقا حرا اسمه محمد حسني مبارك بعد أن قضى فيه سنتين ونصف السنة وربما التقى الرجلان العدوان اللدودان (الأول سموه المخلوع والثاني سموه المعزول) في بوابة السجن في مشهد عبثي لا يكاد العقل يصدقه من فرط الغرابة! فالرجل المخلوع الذي ترأس الدولة لمدة 30 سنة جاء من المؤسسة العسكرية سيدة النظام المصري منذ 23 يوليو 52 وهذه المؤسسة تتصرف حسب الخبراء في 30% من الاقتصاد الوطني ويوما ما خلال العشرية الأخيرة أخذ يفكر في توريث السلطة لابنه مكررا تجربة الأسد السوري وبسبب هذا الخطأ القاتل بالإضافة إلى التشبث بأهداب الكرسي تحول نظامه إلى فساد شامل أثري منه رجال أعمال أقوياء حولوا مؤسسات الدولة إلى حظيرة مملوكة لهم ولعيالهم فطمأنوا مبارك بأن التوريث سيكون سهلا ضمانا لتواصل مبارك واستمرار مصالحهم وامتيازاتهم. ونتذكر كيف كنا نرى مع الشعب المصري عمليات صناعة صورة الزعيم القادم من خلال مخطط إعلامي هندسه صفوت الشريف لتلميع ملامح ابن الريس فرأيناه يعين مسؤولا كبيرا في الحزب الحاكم عما يسمى السياسات ورأيناه يزور المستشفيات ويعد الغلابة بالديمقراطية التي لم يسرع بها أبوه! كل ذلك عشناه أيضا في تونس حين بدأ الرأي العام يقتنع بأن ليلى بن علي أو زوج ابنتها أو ابنها سيكون هو الرئيس القادم وعاشه الليبيون حين شرع العقيد يسلم أمور "الإصلاحات" لنجله سيف الإسلام استعدادا لتوريثه اللادولة الجماهيرية ورأينا أبناء القذافى في السيارات الرياضية الفخمة على شارع الشانزيليزيه يتحدون القانون ويعطون عن مؤسسات الحكم العربية للأوروبيين فكرة زفت! إنه التاريخ العربي في تحولاته الكبرى وتقلباته العظمى أصبحت تصنعه شعوب عربية غلبت على أمرها على مدى ستين عاما من تغييب إرادتها ومصادرة رأيها وقمع طموحاتها. إنه مأزق العقل العربي وأزمته المستفحلة نلمسها في مصر وبشكل أقل حدة وعبثا في تونس حيث دخلت البلاد في نفق اقتصادي واجتماعي وتقلص الأمن قبل أن يعود تدريجيا بفضل حزم كوادره وشعورهم بالمسؤولة الوطنية وكانت الإدارة التونسية هي البطل الأول للثورة حيث لم ينقطع عن الناس كهرباء ولا ماء ولا هاتف ولا أغلق بنك ولا انحبس راتب شهري ولا تعطل مطار ولا تأخرت باخرة ولا أغلق مستشفى ولا أوصدت أبواب مدرسة أو روضة أطفال أو جامعة! إنها معجزة استمرار الدولة بمرافقها العامة وخدماتها للشعب ومن أجل هذا المكسب الثمين يجب على النخبة الحفاظ على الدولة لأن الدولة غير منظومة الاستبداد والطاغوت فالثورة قامت لا على الدولة التي هي مؤسسات محايدة ذات نفع عام بل على مافيات النهب والسلب التي كانت حول النظام السابق والحقيقة أن تأثيرها السيئ على مفاصل الدولة كان محدودا. واليوم ماذا نرى؟ مع الأسف نشهد تهرئة تدريجية للدولة من خلال التخبط المصري ما بين عسكر وإخوان وهو تخبط لا تحمد عقباه إذا ما عرفنا أن عدد الضحايا الذين سقطوا في أحداث عزل المعزول في رابعة والنهضة تجاوز عدد شهداء الثورة ومن خلال التخبط التونسي بسبب نداءات غير مسؤولة بانقلابات على الدولة. هذه النداءات التي غرها المثل المصري الكارثي فاستوردت منه التسميات والمسارات فلدينا كما لدى مصر جبهة إنقاذ وحركة تمرد وهمز واضح للجيش حتى يكون لدينا عبد الفتاح السيسي تونسي! صحيح أن أداء الحكومة التونسية الراهنة والحكومات السابقة لم يكن ناجعا بل في بعض الأحيان كانت النتائج عكسية ولهذا السبب نادينا في الاتحاد الوطني الحر بحل الحكومة لا تفكيك الدولة وبالتأسيس لمرحلة تمهيدية تعقب المرحلة المؤقتة من أجل الخروج من الأزمة لا الانحياز للفراغ والفوضى بدعوى فشل الحكومة! ولكننا لا نرضى بالقضاء على الدولة كدولة لأنها الراعية لحقوق وحياة وأعراض وأملاك وأمن الناس فالمنادون بالعصيان المدني والتمرد وإفراغ المؤسسات من صلاحياتها هم من فصيل الفوضويين أو العدميين الذين يئسوا من الوصول للسلطة عبر صناديق الاقتراع فاختاروا الوصول عن طريق العنف وهم يسمونه في أدبيات ماركس وستالين عنفا مقدسا! فهل من الشرعي أو المنطقي أو الدستوري أن تدفع الحركات الهامشية بالناس نحو مقرات الولايات والمعتمديات والشركات والإدارات لعزل المسؤولين فيها مهما كانت المآخذ عليهم وعلى أدائهم المهني أو انتماءاتهم الحزبية ونحن ندعو إلى إنشاء هيئة مستقلة من خبراء الإدارة والقانون لمراجعة هذه التسميات التي تثير الجدل لوضع الرجل المناسب والكفء في مكانه. الانقلابيون والعبثيون لم يفكروا في الديمقراطية التي يتغنون بها وإلا كيف يطالبون بحق إقالة الدولة وتوليهم هم تأسيس دولة أخرى وهم لا يمثلون لا الشعب ولا أقلية منه وكيف وبأية خلفية سيشكلون حكومة ويعينون محافظين ومعتمدين ومديرين وهم خلو من التفويض الشعبي الذي وحده يمنحهم هذا الحق! فما أبعدهم عن مبدأ سيادة الشعب ومبدأ لا شرعية إلا للشعب اللهم إلا إذا انتصبوا بعصا سحرية ناطقين باسمه ونحن لا نعلم. فالتشكيك في شرعية الحكم الراهن ممكن ووارد بسبب التأخر في معالجة قضايا الناس لكن شرعية المنقلبين عليها مفقودة تماما. الحل في الحوار والوفاق حتى يؤسس الجميع دولة ما بعد الثورة دولة قوية عادلة وقادرة على تطبيق القانون وبسط الأمن وهندسة المستقبل.