31 أكتوبر 2025
تسجيلجاءت الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها العاصمة النرويجية أوسلو وجزيرة أوتاوا وأدت إلى مقتل أكثر من 90 شخصا على يد مسيحي متطرف، مفاجئة لكثير من المتابعين لتطور ملف الإرهاب في العالم خلال السنوات العشر الأخيرة حيث كان التركيز يكاد يكون محصورا في التيارات الإسلامية المتطرفة التي تدعي أنها تشن حربا جهادية ضد قوى الكفر والضلال في العالم. فلم يتوقع أي من هؤلاء المتابعين والمراقبين أن تأتي تلك الهجمة الجديدة على يد تنظيمات مسيحية متطرفة من داخل المجتمعات الأوروبية ذاتها التي أعلنت دولها حربا شاملة بقيادة الولايات المتحدة ضد "الإرهاب الإسلامي" بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 التي تم اتهام عرب مسلمين بالقيام بها. وربما يكون هذا أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت وسائل الإعلام الغربية إلى التسرع في إطلاق الأحكام وتوجيه الاتهام للجماعات الإسلامية المتطرفة منذ اللحظات الأولى للهجوم بأنها تقف خلفه، حيث أعلنت أن الهجوم يحمل بصمات تنظيم القاعدة. وهو الأمر الذي سبب إحراجا كبيرا لهذه الوسائل بعد توصل جهات التحقيق إلى المنفذ الحقيقي لهذه الهجمات، كما أدى إلى فتح ملف دور وسائل الإعلام في نشر العداء للإسلام والمسلمين في السنوات الماضية. ويرى البعض أنه ربما يعيد هذا الجدل الذي أثاره هجوم النرويج تصحيح الصورة النمطية للإرهاب والمحاولات التي جرت خلال السنوات السابقة لربطه بالإسلام والمسلمين، حيث سيتم إعادة توجيه البوصلة نحو الفاعل "الجديد" الذي دخل الساحة بقوة كبيرة وهي جماعات التطرف المسيحية. وفي حقيقة الأمر فإن هذا الفاعل ليس جديدا تماما بل هو قديم قدم الحضارة الأوروبية وثقافتها التي قامت على أسس متطرفة في شتى المجالات، حتى إنه يمكننا القول إن جماعات التطرف المسيحية هي الابن الشرعي للثقافة الأوروبية التي أنتجتها الحضارة الأوروبية وسيطرت على مجتمعاتها طوال القرون الماضية. ووصم الحضارة الغربية بالإرهاب جاء من قبل كتاب ومثقفين كثر بعضهم ينتمي إلى تلك الحضارة، منهم المفكر الفرنسي "روجيه جارودي" في كتابه "الإرهاب الغربي" الذي يتناول فيه جذور الإرهاب الثقافي والسياسي والاجتماعي للحضارة الأوروبية بالعودة إلى ثلاثة آلاف سنة مضت، وصولاً إلى الحضارة الأمريكية الحديثة. في البداية يرد جارودي على الأساطير المؤسسة للعنصرية الغربية – التي تعد الأساس الأول لثقافة الإرهاب - والتي ادعاها مفكرون كبار مثل "بول فاليري " وغيره من مفكري أوروبا الذين يرون أن الحضارة الغربية هي حضارة فريدة من نوعها لم تسبقها أي حضارة أخرى، وهو ما يرفضه جارودي الذي أشار إلى أن ما اتفق على تسميته غربا، ولد في العراق ومصر أي في آسيا وإفريقيا، حيث بداية حضارات الإنسان التي نهل منها الغرب قبل أن يؤسس حضارته الحديثة. ثم يفند جارودي أسطورة أخرى مثلت أساسا قامت عليه الكثير من الجرائم الإرهابية التي ارتكبها الغرب ضد شعوب العالم، وهي أسطورة شعب الله المختار العبرية، والتي لم يجد ما يؤيدها على الأرض في كل أبحاث الآثار التي جرت في منطقة الشرق الأوسط، ولا حتى الوجود العبري ذاته الذي قد يكون في أفضل حالاته قبائل عابرة هاجرت من الجزيرة العربية ضمن الهجرات الآرامية. وقد أكد أن فكرة الشعب المختار كانت أكثر الأفكار دموية في التاريخ. فقد أوحت - بعد تطعيمها بمعارك يشوع الأسطورية إلى الطهريين البروتستانت (البيوريتنز) الانجليز، وهم طائفة بروتستانتية متشددة هاجرت من انجلترا إلى هولندا ثم إلى أمريكا التي اعتبرتها أرض الميعاد لها، وبهذا المبرر استأصلت منها الهنود الحمر وسرقت أراضيهم، إضافة إلى مذابح الكنيسة الكاثوليكية في أمريكا اللاتينية التي أفنت حضارات متفوقة عرفت الصفر والحساب الفلكي الدقيق لأيام السنة والخسوف وفنون الزراعة وأقامت مدنا منظمة في البيرو والمكسيك وهندوراس، وأوضح أن هذا التعصب الديني بقي وراء السياسة الأمريكية ليومنا حتى أن الرئيس نيكسون قال "إن الله مع أمريكا ويريد أن تقود العالم". ويشير جارودي إلى أن النهضة الأوروبية قامت على ظاهرتين وهما الاستعمار والرأسمالية التي تهدف إلى ظهور الإنسان ذي الهدف الأوحد الذي يتوقع أن يؤدي التطور اللانهائي للعلوم والتكنولوجيا إلى إشباع رغبته في السيطرة والمنفعة، أما الاستعمار فسعى لإيجاد مجتمع يزعم تحويل الإنسان الغربي إلى المعيار الذي يتم به تقييم كل شيء، وهو ما يعني تدمير كل الثقافات غير الغربية، وجميع الأنماط الأخرى للتفكير والحياة. ثم يوضح أن تلك الثقافة الغربية المسيطرة منذ أكثر من خمسة قرون والتي تعتبر نفسها المصدر الوحيد الخلاق للقيم والمحور الفريد للمبادرة التاريخية، تقوم أساسا على ثلاث مسلمات للحداثة: مسلمة آدم سميث الَّتي ألَّهَت السوق، مسلمة ديكارت في علاقة الإنسان مع الوجود التي تجعله ملاك وسيد هذا الوجود، مسلمة فاوست الَّتي أدخلت الإنسان في عالم اللامعنى. ويؤكد أن هذه المسلمات أسست لقوانين إرهاب الرأسمالية الكولونيالية التي خلقت تنافسًا وحشيًا دون حد شرعي، أو أخلاقي، حيث الغرب القوي يسيطر على باقي شعوب العالم وينهب ثرواتها بعد أن يستعبدها. هذه الثقافة الإرهابية التي أوجدتها الحضارة الأوروبية تغلغلت في المجتمعات الغربية حتى أصبحت تمثل بنيتها الثقافية وقانونها الأساسي الذي يحكم العلاقات بين أفرادها. فيقول (فرانك براوننغ) في كتابه (الجريمة على الطريقة الأمريكية)، إن هناك سلطة متجذرة في المجتمع الأمريكي تختلف عن السلطات الأخرى المتعارف عليها سواء السلطة التنفيذية أو التشريعية أو القضائية أو السلطة الرابعة المتمثلة في الصحافة وكذلك السلطة الخامسة المتمثلة في مؤسسات القوة كالجيش والمخابرات. هذه السلطة المختلفة التي أطلق عليها السلطة السادسة، وصفها بأنها وراء كافة هذه القوى الاجتماعية، وهي قوة قادرة على التأثير في الحكومة، وفي القانون، وفي الاقتصاد، وفي الشرطة، وفي الأسعار، وفي الأذواق...إلخ، وأنها تغرز جذورها التي تمتد إلى عمق التاريخ الأمريكي، وأن تأثيرها فاعل وسيطرتها واسعة، وقدرتها متنامية باستمرار. الثقافة التي أوجدت هذه السلطة السادسة تعود إلى نشأة هذا الكيان المسمى الولايات المتحدة مع هجرة البوريتانيين الإنجليز إلى الأراضي الأمريكية. ويتجلى ذلك في قول أحد هؤلاء البوريتانيين: "من الجلي أن الله دعا المستعمرين إلى الحرب حيث يركن الهنود إلى عددهم وأسلحتهم، يتربصون الفرص لارتكاب الشر"... إنها نفس الثقافة التي سيطرت على المجتمعات الأوروبية.. فهي تخرج من معين واحد. ثقافة الإرهاب هذه التي نشأت مع نشأة المجتمع الأمريكي، تحالفت مع الرأسمالية المتوحشة التي خلقتها الثقافة الأوروبية لتنتج مزيجا رهيبا من العنف والإرهاب، تسعى من خلاله الدولة الأمريكية ـ قائدة الحضارة الغربية ونموذجها الأمثل ـ للسيطرة والهيمنة على مقدرات الشعوب وثرواتها ـ يساندها في ذلك باقي دول الغرب الاستعماري ـ ولا تتورع عن استخدام كل الوسائل لتحقيق مآربها، والتي يصفها لنا بشكل أوضح عدد من الكتاب الأمريكيين أبرزهم نعوم تشومسكي في كتابه "ماذا يريد العم سام؟" الصادر في عام 1998 وكتاب "القوة والإرهاب، جذورهما في عمق الثقافة الأمريكية" الصادر في عام 2003 وكذلك وليم بلوم في العديد من كتبه ومن أبرزها كتاب "الدولة المارقة" الذي صدر في العام 2002 وكذلك في كتاب "قتل الأمل" الصادر في العام 2006. وفي ظل ثقافة الإرهاب هذه يكون من الطبيعي نشأة وترعرع جماعات التطرف ذات الصبغة الدينية المسيحية التي تسعى لمواجهة المسلمين ودينهم الذي يعتبرونه التهديد الرئيسي لمملكة الرب المسيحية، عبر القيام بعمليات إرهابية ليس فقط ضدهم ولكن أيضا ضد الدولة التي سمحت لهم بالعيش وسط المجتمعات المسيحية. وهنا نتساءل: هل ستؤدي تلك الهجمات بالفعل إلى إعادة تصحيح صورة الإسلام والمسلمين ليس فقط في أوروبا ولكن في العالم أجمع، التي تم فيها الربط بينهم وبين الإرهاب وإعادة اكتشاف جذور ثقافة الإرهاب الحقيقية لمواجهتها؟ الأيام القادمة سوف تجيب على هذا.. وإن كانت تجارب التاريخ تؤكد دوما على أن ثقافة التطرف الغربية تزداد وحشية بمرور الوقت وأنها ليست في وارد إعادة التصحيح.