17 سبتمبر 2025

تسجيل

عندما عملت كناسا في جوار وبناء في سواسون

30 يوليو 2011

قرية جوار تقع في شمال شرقي باريس على بعد 55 كيلومترا من العاصمة الفرنسية وهي أول محطة من محطات منفاي بعد أن غادرت تونس في 24 أغسطس 1986 مع رفيق المنفى رئيس حكومة تونس الأستاذ محمد مزالي وقد سكنت بهذه القرية بمحض الصدفة لأن زوجتي الدكتورة حبيبة الشوباني خريجة كلية الصيدلة الفرنسية وجدت عملا بصيدلية القرية الوحيدة. فاستأجرنا بيتا ريفيا صغيرا يقع في ضيعة تفاح وسط حقول شاسعة معرضا للرياح الأربعة ويستحيل تدفئته في شتاء 1986 الذي كان من سوء حظي العاثر أبرد شتاء فرنسيا منذ نصف قرن! وحين كان راتب زوجتي لا يتجاوز الأربعة آلاف فرنك شهريا (ما يعادل 600 دولار) ندفع نصفه لإيجار البيت فإن ابني الوحيد آنذاك كان ينام على فراش دون سرير نحاول أنا وأمه تعزيزه بالحشايا والبطاطين التي تجود بها علينا أسرة برتغالية جارة جزاها الله عنا كل خير، والغريب أن أخي كان يبعث لي بالبريد صفحات الصحف الصفراء التي تنشر بعناوين كبيرة ومثيرة "أنباء" ثرائنا الفاحش أنا ورئيس الحكومة والإسلاميين المنفيين! وإني أردت أن أنقل للشباب بعض نوادر هذه المحطة بسبب صدور كتاب مذكرات رفيقنا في المنفى الضابط السامي الأسبق في سلاح الطيران المهندس الصديق رشيد عزوز في طبعة ثانية منقحة استعرض فيها بعض عذاباتنا وحماساتنا المشتركة في مقاومة الطاغوت ولا تخلو مذكرات رشيد عزوز من الإشارة الضاحكة والمعبرة والمؤثرة عن بعض ما عانيناه عندما كنا حول محمد مزالي في منفاه لسنوات عديدة. وإني في ذكر بعض معاناتنا أريد أيضا أن يقرأها أولئك الذين ظلمونا واضطهدونا ولاحقونا ولفقوا لنا التهم المهزلة وهم اليوم سنة 2011 مقسمون إلى ثلاثة أقسام: قسم منهم في السجن الذي هيأوه لنا باطلا وبهتانا فدخلوه بوجه حق بفضل قضاء مستقل وشريف، وقسم لا يزال خارج السجن لم يكتشف الناس بعد مدى إساءتهم للوطن ومناصرتهم للباطل، وقسم ثالث لا يزال يمارس هواية التدليس على الرأي العام وتمثيل مسرحية الأبرياء وضحايا ابن علي بل وحتى أبطال الثورة! والجميع رأوهم لمدة عشرين عاما يلتحفون خرقة القماش الأحمر حول أعناقهم ويملأون القاعة البيضاء في قصر قرطاج ويصفقون لابن علي ويبررون الاستبداد. وحسبنا الله ونعم الوكيل. ونعود لكتاب الصديق رشيد عزوز الذي قرأت في صفحته 85 وما بعدها ذكريات تتعلق بي شخصيا وعاشها معي هو نفسه يقول الكاتب: " أما أحمد القديدي أقرب مساعدي رئيس الحكومة محمد مزالي الذي سبق أن تحمل مسؤولية إدارة صحيفة الحزب الحاكم وكان عضوا في البرلمان وعضوا في اللجنة المركزية للحزب الدستوري في تونس فقد كان يتقاضى من زوجته الصيدلانية مبلغ 20 فرنكا يوميا (5 دولارات) ليذهب إلى باريس ويشارك في كفاحنا المشترك، ثم احتاج إلى عمل يسد به الرمق فاتجه إلى رئيس بلدية (جوار) التي يقيم فيها وقدم له شهاداته ومنها الدكتوراه فاعتذر رئيس البلدية رغم تعاطفه معه وعرض عليه أن يشتغل زبالا أو كناسا ينظف شوارع القرية وأعطاه عربة (برويطة) ومكنسة وآلة لجمع ما يتكدس على الرصيف وتوكل القديدي على الله لممارسة هذه المهنة الشريفة لأنها كسب حلال يساعد بأجرها الزهيد عائلته الصغيرة. ولا أخفي على قرائي الكرام بأن هذه المعلومات صحيحة وأن صديقي العقيد رشيد عزوز أوردها كمؤشر على أننا مع كل أطياف المعارضة التونسية عانينا ما كتبه الله لنا بصبر بل وبابتسامة الرضا والقناعة واثقين من عدالته سبحانه. أما الذي لم يذكره الصديق العزيز هو أنني عملت أيضا بعد ذلك عامل بناء بسيط في بلدية (سواسون) وهو عمل لا يقل شرفا عن مهنة الزبال وقد جاد علي بهذا الفضل أحد الإخوة الإسلاميين التوانسة الحاج الطيب عياد فحملت نصيبي من قردل الأسمنت ومن اليأجور (حجر البناء) ولكن بلطف ولين لأن الحاج الطيب كان صديقا حميما لمراقب البناء الفرنسي. وأذكر اليوم مبتسما شابا فرنسيا اسمه (شارل أندري) يعمل معي في نفس بناء العمارة وهو كثير الشكوى من ضنك الأجر ومشقة العمل فكان يقول لي بمرارة بأنه حاصل على شهادة "البكالوريا" (نهاية الثانوية) والبناء ليس عمله ويشتكي لي من سوء الحظ وعبث الأقدار وكنت أضحك في داخلي لأنه لو عرف حقيقة أمري لهان عليه أمره لأني كنت عام 1982 رئيسا منتخبا للمؤتمر الدولي لاتحاد البرلمانات في مقر البندستاغ الألماني بعاصمة ألمانيا (بون) وكان رؤساء البرلمانات يطلبون مني الكلمة بعبارة (سيدي الرئيس مستر تشيرمان) ومنهم حتى رئيس الكونغرس الأمريكي ورؤساء البرلمانات الأوروبية وغيرها! وتصوروا لو كشفت له هذا السر لاعتبرني مجنونا أو كذابا. وآخر قولي هو جزا الله الشدائد كل خير، فهي زائلة زوال الباطل ولله الأمر من قبل ومن بعد.